استمع تركي إلى حديث صديق طفولته ناصر، وقال له:
يقولون أنَّ الرَّقة دمّرت عن بكرة أبيها! أغلب أبنيتها سوّيت مع الأرض ولم ينفع معها الترميم، وبحاجة إلى هدمها وإزالتها وبنائها من جديد، ما يعني أنها بحاجة إلى مبالغ طائلة تتجاوز مليارات الدولارات للعودة بها إلى ما كانت عليه قبل اشتعال فتيل الثورة، العدوان سلّط سيفه على أعناق أهلها البسطاء فقتل منهم من قتل، وشرّد من شرد، فهاجر أكثريتهم إلى وجهات مختلفة!.
ما الحل؟
عدوان غريب، لم يبق ولم يذر، الناس اليوم لم يعد أغلبهم، ظلّ أكثرهم يعيش في بلاد النعيم، وغيرهم كثير في بلاد أخرى أكثر مأساويةً، ما الحل؟
وبعد أن سيطر عليها "داعش" بأفكاره الشيطانية وحقده البغيض، وقتل الناس لأسباب تافهة، من أجل فرض سيطرته على أهلها بالقوّة، دُحر أخيراً بفضل قوات التحالف الدولي بقيادة الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية، وبمساعدة القوات الكردية "قسد"، التي تعيد الكرّة في السيطرة على المدينة وعلى أهلها الذين لا حول لهم ولا قوّة.
الأهالي اليوم في حال يرثى له، فقر مدقع، وحاجة لا بعدها ولا قبلها، وغياب للأمن والخدمات، سطو مسلح، ترهيب وخطف، فضلاً عن الغلاء الفاحش في أسعار المواد الاستهلاكية إلى حد الجنون رفقةً بارتفاع أسعار الدولار!
ومهما تحدثنا عن واقع مدينة الرّقة التي وصلت مع نهاية العام 2012 وبداية العام 2013، إلى حالة استثنائية كمدينة يعيش أهلها حياة مريحة ومقنعة إلى حدٍ بعيد، إلاّ أنه وبفضل العصابات الهجينة المتغطرسة التي خربت البلد ودمّرته وأعادته، وللأسف، إلى عصور خلت فهذا لم يرض أحد، ولا يمكن أن يقبل به حتى طفل رضيع!
تغيرت ملامح الرَّقة كما تغيّرت ملامح العديد من مدن سورية وقراها، ولم يعد بالإمكان معرفتها، أو الاستدلال على أي شيء يمكن أن يشير إلى أنَّ الرّقة وغيرها كانت هنا، نتيجة الدمار الذي نال قسماً كبير منها!
هذا الواقع المؤسي، من المستفيد منه؟ يتساءل تركي بكل حسرة وألم، ونعود للحديث عنها في كل مرّة نستذكر واقعها الأليم الذي لم يخلص منه أحد.
إنّ العودة إلى تذكُّر الأيام الأولى للنزوح القسري، واستعادة صورها المخيفة التي تماهت مفرداتها مع أصوات المدافع، وهدير طائرات سيخوي الحربية، وصواريخ سكود المرعبة، والبراميل المتفجّرة التي تتساقط تباعاً على أسطحة الأبنية السكنية التي يقطنها مئات الآلاف من الناس الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، كانت تثير الرعب في قلوب أهلها البسطاء، الله وحده القادر على حمايتهم من وابل حمم الموت المباشرة، التي ما إن تصطدم بالأبنية حتى تحولها إلى كتل من الركام، وخوف الأهالي الذين بدون وعي منهم يركضون في اتجاهات مختلفة، مذعورين، مذهولين، يأخذ كل واحد منهم مكانه في زاوية قصية من بيته باحثاً عن مخبأ يحاول أن يصدّ عنه لهب النار والشظايا، وأكوام الحجارة المتناثرة من الأبنية المشادة المتلاصقة بعضها ببعض، وقد أخذت بالتصدّع والتساقط على رؤوس أصحابها!
وحدها أصوات الطائرات تُسمع فيسكن قلب المتدثّرين بالأغطية خوفٌ مريب. لم تعد البراميل المتفجّرة التي ترمي بها الطائرات المروحية من ارتفاعات منخفضة مرئية للناظرين، تلك البراميل العمياء لا تميّز بين صغير أو كبير، ولا بين شيخ مسنّ أو امرأة أو طفل رضيع.
وابل البارود والخردة الفولاذية لم يترك أحداً من شرّه، أو متنفساً لأحد لكي يختار الطريق الآمن في الهرب إلى حيث يريد، فضلاً عن الكتل البيتونية وبقايا البناء الطائش المتطايرة في كل اتجاه، كل ما هو جميل يستحيل إلى شظايا محرقة، شرّها المستطير يطال كل ما يصادف في وجهتها العبثية، ويقتل الناس الأبرياء الضعفاء، لقد كانوا ينشدون الأمان ويحتملون الفقر المدقع وشظف العيش فصعدت أرواحهم وبيوتهم وموارد أرزاقهم إلى السماء.
من عاش الواقع، واستحمَّ بمائه العكر في تلك الفترة أدرك تماماً مرارة المعاناة، والحرب اللعينة التي طوّقت أعناق الأهالي، وأرغمتهم على ترك كل شيء والفرار بجلدهم، وحوّلت حياتهم البائسة إلى كآبة مطلقة، لقد غدت الهجرة والهرب متنفساً لأغلب الناس الذي فرّوا من الموت المتربص بهم دونما ريش يستر خوفهم وبردهم. كان الرحيل أمراً لا مفرّ منه، فقد أخذ اليأس يدرك هؤلاء الضحايا بدون أمل يرتجى فأخذوا "يُلمْلِمُون" ما أمكن من أشياء وأدوات بسيطة، عسى أن تساعدهم في ملجأهم الجديد.
طوبى لكم يا أهلنا الصامدين في رقتنا الحبيبة..
بوركتم يا من تحدّيتم الموت والجوع ولا زلتم متشبّثين بطهر الأرض وبرائحتها الطيبة.
عبد الكريم البليخ
صحافي سوري