انقلابات البعث في سورية 8 آذار نموذجًا


 

 

    يوم الجمعة الثامن من آذار/مارس 1963، قامت مجموعة من ضباط الجيش السوري بإسقاط نظام الحكم في دمشق، وفي الساعة السابعة صباحًا قطع راديو دمشق برامجه العادية وأذاع بيان قيادة الجيش رقم 1 الصادر عن قيادة الانقلاب التي تولت الأمور. وتوالت البيانات لتشرح حقائق حكم الانفصال بدءً من 28 أيلول/سبتمبر 1961 والمحاولات المتكررة لتصحيح المسار حتى يوم الثامن من آذار.

    جرى اعتقال اللواء عبد الكريم زهر الدين القائد العام للجيش وخلع الدكتور ناظم القدسي رئيس الجمهورية، بينما التجأ رئيس الوزراء خالد العظم إلى السفارة التركية بدمشق. البيانات الأولى عن الانقلاب حملت قرارات تعيد إلى الخدمة العديد من الضباط الذين سرحوا في عهد الانفصال، وتداولت وسائل الاعلام معلومات عن تعيين اللواء لؤي الأتاسي قائدًا عامًا للجيش والقوات المسلحة، بعد إخراجه من سجن المزة وترفيعه إلى رتبة فريق، والعميد راشد قطيني نائبًا له، والعقيد زياد الحريري رئيسًا لهيئة الأركان العامة بعد ترفيعه إلى رتبة لواء، وهو القائد الفعلي للانقلاب، بعد أن أتى بقواته من الجبهة السورية الذي كان قائدًا لها. 

    شكل قادة الانقلاب مجلسًا لقيادة الثورة برئاسة لؤي الأتاسي ضم عددًا كبيرًا من الضباط البعثيين والوحدويين ومن المدنيين أيضًا، مع أن الانقلاب لم يشارك به إلاّ ضابط بعثي صغير هو الملازم اول سليم حاطوم، الذي قامت سريته باحتلال الإذاعة ومقر قيادة الأركان.

    كان البيان رقم 2 قد فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي مازالت سارية حتى اليوم في سورية. وبهذا التشكيل كان مجلس قيادة الثورة يضم اتجاهين رئيسيين:

1 _ اتجاهًا يقول بعودة الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة فورًا واعتبار فترة الانفصال التي دامت سنة ونصف وكأنها لم تكن، وهو اتجاه الضباط القوميين والناصريين الوحدويين.

2_ واتجاه يقول بإسقاط الانفصال وعودة العلاقات الطبيعية مع الجمهورية العربية المتحدة تمهيدًا لإجراء مباحثات ومفاوضات لإقامة وحدة على أسس سليمة مدروسة.

    شكلت الوزارة الأولى للانقلاب برئاسة صلاح الدين البيطار القيادي البعثي والذي وقع وثيقة قبول الانفصال، وكان وزيرًا في عهد الوحدة، ضمت الوزارة تحالفًا بين الوحدويين الاشتراكيين والقوميين العرب والبعثيين والجبهة العربية المتحدة. 

قامت مظاهرات مؤيدة للانقلاب تطالب بعودة الوحدة الفورية ورفعت شعارات مثل (لا دراسة ولا تدريس الا بعودة الرئيس)، والمقصود رئيس الجمهورية العربية المتحدة الذي تم الاستفتاء عليه في 22 شباط/فبراير عام 1958 رئيسًا لسورية ومصر. وقمعت بعض المظاهرات بعنف.

    على صعيد الإعلام رحبت الكثير من الصحف بانقلاب دمشق في لبنان ومصر وقالت صحيفة الأخبار المصرية صبيحة يوم الانقلاب (كان صدى ثورة سورية عميقًا بعيد الأثر قي الدوائر العالمية، وشكل هزة عنيفة في الدوائر الرجعية في الأردن والسعودية وسورية حيث أحست أنها تفقد أرضًا قوية، خصوصًا بعد لجوء عدد من الطيارين الأردنيين والسعوديين إلى مصر بعد رفضهم قصف اليمن).

    على صعيد الدول رحبت الجمهورية العربية المتحدة بالحدث في بداية الأمر وأرسل الرئيس عبد الناصر يوم 9 آذار/مارس لمجلس قيادة الثورة اعتراف الجمهورية العربية المتحدة بالنظام الجديد. وتوالت الاعترافات من العراق الذي قام فيه انقلاب قبل شهر بقيادة القوميين والبعثيين العراقيين، ومن ثورة اليمن التي انتصرت قبل فترة قصيرة ومن الجزائر المستقلة حديثًا.

    في الكواليس وقبل قيام الانقلاب في دمشق اتصل السفير الأميركي في العاصمة السورية بكل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ليبلغهم بمعلومات حكومته التي تقول بأن بعض ضباط الجبهة يحضرون لانقلاب على الحكومة وأن الحكومة الأميركية قادرة على إفشاله بشرط توقيع الحكومة السورية اتفاقية سلام مع إسرائيل، إلا أنهما رفضا العرض حسب ما كتب خالد العظم في مذكراته.

 

    تشكلت في سورية والعراق وفود ذهبت للقاهرة للتفاوض بهدف قيام وحدة ثلاثية، دامت المحادثات على فترات إلى أن تم توقيع ميثاق الوحدة الثلاثية وعمت الأفراح والاحتفالات الدول الثلاث. إلا أن حزب البعث الذي أصبح لديه العدد الكبير من الضباط المعادين إلى الخدمة وتواجدوا في مفاصل الدولة كان له رأي آخر.. فقد قام بتسريح العدد الكبير من الضباط الوحدويين بإرسالهم بوفود خارجية وإبعاد البعض إلى مراكز هامشية، وأصبح يستأثر بالمناصب والمواقع، وأعاد عددًا كبيرًا من ضباط الاحتياط وثبتهم كضباط عاملين ليفرغ الجيش من الكفاءات العسكرية المشهود لها، لينعكس ذلك مستقبلًا على أداء الجيش في حروبه القادمة.

   بلغ السيل الزبى مع الضباط الوحدويين الباقين في الخدمة فقاموا بمحاولة لتصحيح مسار الحركة وذلك بتاريخ 18 تموز/يوليو 1963إلا أن المحاولة كانت مكشوفة للقيادة البعثية ليرتكب البعث أول مجزرة بإعدامات ميدانية واعتقالات واسعة وتسريحات، وساد ظلام البعث فوق سورية لتؤيد القيادة البعثية في العراق الإعدامات وتحرض على المزيد، بينما استنكرت قيادة الجمهورية العربية المتحدة المجزرة وتحمل حزب البعث المسؤولية بعد أن انفرد في الحكم وتخلص من جميع الشركاء، ورفع من يومها شعار التجربة الخاصة بالبعث.

    لقد جعل نظام آذار/مارس الانقلابي الذي واجه مقاومة شعبية بسبب تجذر الاتجاه الوحدوي في ذلك الوقت، من الحفاظ على السلطة بأي ثمن، هدف الحكم الجديد الأول والأخير وبنى كل سياساته على إيجاد نخبة عسكرية وأمنية وسياسية مضمونة الولاء، وكانت وسيلته الطبيعية تحقيق ذلك كما جرت العادة في سورية، استخدام العصبيات الأهلية المرتبطة بالقرابة الأثنية أو المناطقية، وقد وظف سيطرته الانقلابية على الدولة الرسمية ذاتها لتكوين هذه النخبة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية ودائرة نفوذها الاقتصادية والسياسية والإعلامية. 

    بعد انفراده بالحكم أعاد البعث تشكيل مجلس قيادته ومجلس وزرائه ليصبح أمين الحافظ رئيسًا للجمهورية بالتعيين والذي كان يلقب في الشارع السوري بالجحش، ومع تزايد الاحتجاجات والاضرابات زاد القمع الوحشي وتشكل ما يسمى بالحرس القومي وهو كتائب بعثية مسلحة فتحت محلات المضربين بالقوة وقامت بنهبها واعتقال أصحابها حتى وصلت بهم الأمور لاستباحة الجامع الأموي بدمشق برفقة الجيش ولتستعمل الرصاص الحي ضد المعتصمين، كما حدث في حماة من هدم للبيوت والمساجد وقتل المتظاهرين.

    بعد قمع الاحتجاجات واعتقال المئات يبدو أن الأمر استتب للانقلابيين، لتبدأ الاعتقالات والتصفيات ضمن المجموعة الحاكمة التي سيطر عليها التنظيم العسكري للبعث المتمثل باللجنة العسكرية المؤلفة من خمس ضباط هم محمد عمران الذي أصبح وزيرًا للدفاع، وصلاح جديد الذي استلم رئاسة الأركان وحافظ الأسد الذي تولى قيادة سلاح الطيران وعبد الكريم الجندي لإدارة المخابرات وأحمد المير لقيادة الجبهة. وبقي التنظيم المدني هيكلًا شكليًا ليس له من الأمر شيئًا.

    مع أن البعث أصبح حاكمًا منفردًا في العراق وسورية وله قيادة قومية موحدة، الاّ أنه فشل في إقامة تجربته الخاصة التي نادى بها بعد افشال ميثاق 17 نيسان/ابريل الثلاثي، وعند سؤال أحد قادة العراق حينها وهو نائب رئيس الوزراء البعثي على صالح السعدي عن مصير الوحدة بين البلدين قال: لم نتفق حتى على ترتيب شؤون الترانزيت بين البلدين. من هنا يتضح أن الهدف الرئيسي لمجموعة الضباط في البلدين هي السلطة بغض النظر عن مصالح الشعوب والبلدان التي يحكمونها، وفي نفس الفترة لم يكن وضع الحكم في العراق بأفضل من سورية ويكاد يتطابق معه في التسريحات والتشكيلات كالحرس القومي والكتائب المسلحة.

 

 

محمد عمر كرداس 

كاتب سوري

 

 
Whatsapp