كشفت الأيام الأخيرة عن دخول العلاقة الروسية والتركية مرحلة تحديد الأحجام والأدوار، فالروس متمسّكون بتحقيق نصر ساحق يدفع الرئيس التركي إلى القبول برؤيتهم السياسية للصراع في سورية، عبر استثمار حالة العزلة والخصومة السياسية التي يعيشها مع حلفائه في التحالف الغربي، وانخراطه في صراع سياسي واقتصادي مع دولٍ في محيطه الإقليمي.
لقد اختارت روسيا لحظةً دقيقة لنقض اتفاق سوتشي، لحظة تحرك الرئيس التركي في أكثر من صراع وملف ساخن، من الاشتباك مع قبرص على خلفية التنقيب على الغاز في المياه الاقتصادية للجزيرة، إلى الاشتباك مع اليونان على خلفية تدخل تركيا في ليبيا، عبر عقد مذكرتي تفاهم مع الحكومة الليبية، المعترف بها دولياً، والانخراط في معارك سياسية وإعلامية مع محور مصر والسعودية والإمارات والبحرين، على خلفية تبنّي تركيا جماعة الإخوان المسلمين، وتقديم دعم سياسي وإعلامي لها، وتأييد موقف قطر في مواجهة الحصار الذي فرضته هذه الدول عليها؛ ودعم هذا الرباعي قوات سورية الديمقراطية (قسد) سياسياً ومالياً، ونزاع سياسي مع الولايات المتحدة حول دعم الأخيرة "قسد"، والشكوك حول موقفها من محاولة الانقلاب الفاشلة، وعدم تقيد تركيا بالعقوبات الأميركية على إيران.
من هنا فإن الخيارات أمام الرئيس التركي تتضائل تدريجياً، فمع تواصل تقدم عصابات الأسد بسرعة كبيرة وقرب انتهاء موعد المهلة التي أعلن عنها، لضرورة انسحابها إلى حدود نقاط المراقبة واتفاق سوتشي، بات خيار القيام بعملية عسكرية ضد هذه العصابات خياراً وحيداً ومصيرياً ما لم تحصل معجزة في اللحظات الأخيرة تتيح عقد اتفاق جديد مع روسيا.
وتتداخل الكثير من الأسباب التي جعلت من العملية العسكرية والاشتباك المباشر مع عصابات الأسد خياراً صعباً للرئيس التركي ولكنه مصيري سياسياً وعسكرياً رغم محاولاته تجنب هذا الخيار لما يحمله من مخاطر واسعة، والتكلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية له. فالتراجع أمام عصابات الأسد وداعميه يضر بمكانة تركيا إقليمياً ودولياً وينعكس بدرجة كبيرة على دورها المحوري الذي تسعى لتثبيته في ليبيا وشرق المتوسط، وستعتبر بمثابة خسارة استراتيجية لتركيا.
هذه الأسباب بمجملها ستؤدي إلى خسارة الرئيس التركي لشعبيته التي تعرضت للكثير من الأضرار في السنة الأخيرة عقب الإنتخابات المحلية وتراجع الوضع الإقتصادي، مما يجعل حظوظه في النجاح في الانتخابات المقبلة تزداد صعوبة.
وإن كان الأتراك باتوا يدركون خطأ مقاربتهم للصراع على سورية، مما جعل حوالي أربعة ملايين إنسان مهددين بالموت في الشمال الغربي لسورية، متجاهلين في الوقت ذاته دورهم في تجميع هؤلاء الناس في الشمال السوري نتيجة عملية التهجير القسري للمدنيين من مختلف مناطق سوريا، حين انخرطت تركيا مع شركائها الروس والإيرانيين في مسألة «مناطق خفض التصعيد» وسلسلة تفاهمات الاستانة وسوتشي.
يتساءل كثيرون عن أسباب تأخر إعلان المعركة، بالرغم من دلالاتها على الأرض، وإن كانت تركيا ستدعم معركة ضد عصابات الأسد، فلماذا تسمح بسيطرة قواته على مناطق استراتيجية؟ ألم يكن من الأفضل صد عصابات الأسد على الجبهات ومنع إنهيارها بحيث تتجنب الفصائل ومن خلفها تركيا حرباً على مساحة أوسع وفي مناطق أكثر صعوبة؟ إن الكثيرين من الذين أصبحوا دون مأوى هائمين في الشمال السوري يعتقدون أن سبب مأساتهم هو تبعية الفصائل العسكرية التي خذلتهم وفرت من مناطقهم الحصينة دون قتال، والتي كانت عصية على عصابات الأسد وشبيحته طوال سنوات الثورة، ومن هذه الفصائل فيلق الشام والجبهة الوطنية للتحرير. أما ما يسمى بـ (هيئة تحرير الشام) فمعظم الثوار السوريون يتفقون أن هذه الهيئة التي أنهت وجود العديد من الفصائل العسكرية المقاتلة، وسلبت سلاحها لم تكن أصلاً سوى خنجر في ظهر الثورة، وما الانسحابات التي نفذتها سوى رسالة إلى الفصائل العسكرية الأخرى، تقول فيها إنها قادرة على تسليم المنطقة لعصابات الأسد في حال فكرت تلك الفصائل في تهديد وجودها. ولذلك لا تريد قيادتها استنزاف المقاتلين والعتاد في معركة مع عصابات الأسد، بحيث يغدو أمر إنهائها سهلاً فيما بعد من قبل الفصائل الثورية. فهذه الهيئة التي سيطرت على مقدرات مناطق واسعة بالقوة، بحجة حمايتها من عصابات الأسد، لم تكن مهمة حماية هذه المناطق وسكانها على سلم أولوياته.
د. محمد مروان الخطيب
كاتب وباحث سوري