لماذا تفشل الدول وتنهض الأخرى


 


النجاح قرار، عندما ننظر للناجحين من الدول والأفراد نجد أن النجاح قرار وإرادة عظيمة وسعي جماعي للنجاح والأخذ بكل أسباب النجاح الحقيقة الفعّالة.

لماذا بعض الدول غنية وبعضها فقير، بعضها مزدهر وبعضها متخلف يرزح تحت الفقر تارة والجهل تارة والاستعمار تارة أخرى. هل الموقع الجغرافي أو الإرث التاريخي هو الذي يحدد: هذه دولة غنية وهذه فقيرة. هل الثقافة والدين هي السبب في كون هذه الدولة غنية وهذه فقيرة. هل التعداد السكاني له علاقة سلباً أو إيجاباً بغنى دولة وفقر أخرى. أم أن السياسة الذكية أو السياسة الحمقاء التي تدار بها البلد هي السبب، كما أن التطور المؤسسي وانفتاح المجتمع والعدالة وحكم القانون هو من يطور البلد. عندما نمتلك مؤسسات اقتصادية فاعلة كبيرة ناجحة ويكون لدينا النظام والحكم السياسي التعددي المنفتح الذكي ويأخذ بعوامل النهوض ليجنب البلد السقوط فتكون حال البلد مختلفة.

لماذا هناك ثلاثين دولة بقمة التصنيف العالمي لدخل الفرد وهناك دولاً فقيرة فاشلة، وهناك دولاً بينهما، كبعض دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط، فهي بدخل فرد يشابه الدول الثلاثين غير أنه إذا انهار سعر النفط تنحدر بشكل سريع.! لماذا تكون الفوارق بين دول أوربا ودول أفريقيا ودول الشرق الأوسط.

قدم علماء الاجتماع عدة تفسيرات، لكنها لا تنجح بالتفسير الحقيقي الواقعي العلمي والأمثلة والشواهد. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر أشار الفيلسوف الفرنسي (مونتسكيو) إلى أن الموقع الجغرافي سبب الازدهار أو الفقر، وأن الذين يعيشون في المناخ الاستوائي يميلون إلى الكسل، وفقدان حب البحث والاستطلاع، وبالتالي لا يعملون بجد وهو سبب فقرهم وأن الأشخاص الكسالى يميلون لحكم المستبدين.

 ولايزال عالم الاقتصاد (جيفري ساكس) يدافع عن النظرية، رغم واقع الحال الذي يشهد التقدم الاقتصادي السريع الذي حققته سنغافورة وماليزيا يدحض هذا التفسير وكذلك محاولات النهوض في دول عدة وتراجع في دول أخرى مختلفة جغرافياً، ومدينة نوغاليس مثالاً مهماً فهي إقليم واحد منقسم إلى قسمين ليس قسمًا جغرافياً وإنما سور بين دولتين الولايات المتحدة والمكسيك لتشهد فرقاً شاسعاً كبيراً بين الطرفين من الفقر والازدهار.

وكذلك الفرق بين ألمانيا الشرقية والغربية قبل سقوط جدار برلين، وكذلك كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. فليس صحيحاً أن هناك علاقة بين المناخ أو الموقع الجغرافي وبين الفقر أو الازدهار. كما أنه (في السياق التاريخي) يدلل على بطلان التفسير فقد كان الشرق الأوسط له دور الريادة تاريخياً فكانت المدن الأولى قد أنشئت في العراق وسورية وتم صهر الحديد لأول مرة في تركيا وفي العصور الوسطى كان الشرق الأوسط فعالاً وديناميكياً ورائداً في الازدهار الاقتصادي على عكس الواقع اليوم.

هناك فرضية أخرى تلقى قبولاً على نطاق واسع وهي فرضية الثقافة والدين ، ويرجع أصلها على الأقل إلى عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) والذي رأى أن الاصلاح البروتستانتي والأخلاق البروتستانتية التي أفرزتها لعبت دوراً في نهوض المجتمع الحديث في أوربا الغربية، والبعض يعتقد أن الأفارقة فقراء لأنهم يعتقدون بالسحر والدجل، وهناك من يعتقد أن أميركا اللاتينية لن تصبح أبداً غنية لأن سكانها يغلب عليهم الإسراف والإفلاس، كما أن هناك من كان يعتقد أن الثقافة الصينية الكونفوشيوسية معادية للتطور والنمو الاقتصادي، في حين أصبحت الثقافة الصينية وأخلاق العمل الصينية هي المحرك لعجلة النمو الاقتصادي في الصين وهونج كونج وسنغافورة، فالصين التي كانت تعيش حالة فقر حتى وفاة ماوتسي تونغ لم يكن فقرها نتيجة ثقافتها بل الطريقة الكارثية التي كان يتّبعها ماوتسي تونغ في تنظيم الاقتصاد والسياسات، فقام بالخمسينيات بوضع نظام أطلق عليه القفزة الكبرى وأدت إلى حدوث مجاعات ضخمة وقحط ثم قام بالدعوة إلى إطلاق الثورة الثقافية والتي أفضت إلى اعتقال أصحاب الفكر والمثقفين والمتعلمين من المواطنين لمجرد أي شك يدور حول ولاء الشخص للنظام وحزبه.! فالنمو الاقتصادي الراهن نتج عن عملية التحول الاقتصادي مدعومة بالإصلاحات التي نفذها (دينج شياوبنغ) وفرنسا كاثوليكية لكنها قفزت قفزات للنهوض تتحدى كل معوقات النهوض. وكذلك مثال نوغاليس، المدينة الممتدة بين المكسيك والولايات المتحدة مثال واضح لأن لهم نفس الثقافة ونفس الدين وكذلك كوريا الشمالية والجنوبية والألمانيتين، فالفوارق نتيجة وجود مؤسسات ومسارات تاريخية مختلفة في كلا المكانين فمن غير المحتمل أن تكون الثقافة أو الدين مسؤولة بذاتها عن معجزات النمو والتطور فالتوجهات الثقافية بشكل عام بطيئة بالتغيير ولا تحدث تغيير بمفردها. وهناك من اعتقد أنه يجب محاربة الدين من أجل النهوض فوقعوا بصدام مع المتدينين ودخلوا دائرة لاإنسانية لم يخرجوا منها، ومجرد أنت غير متدين إذن أنت ناجح مستنير.! والعكس أيضاً في الشرق الأوسط هناك من اعتقد أن بمجرد تحول المجتمع إلى مجتمع متدين فسوف ينهض ويصبح مباركاً.! ولا أظن الأنبياء فعلوا ذلك على الاطلاق فهم أنشأوا مجتمعاً فيه المؤمن وغير المؤمن فلا إكراه في الدين.

والأمر الأخير فرضية المعرفة الذاتية فهناك من اعتقد أنه لمجرد وجود مستشارين يملكون معرفة كبيرة متخصصة أو حاكم يملك معرفة كبيرة فهذا سوف يحقق وحده النمو والازدهار. حاكم فرد لديه كم من المعرفة كبيرة ولديه فريق من المستشارين لكن لا يوجد مؤسسات رديفة وداعمة قوية وتتقن أخلاقيات العمل في طريق النهوض أيضاً سوف ترتطم المعرفة بمعوق التعطيل والجهل وعدم الإيمان بأسباب النهوض أو عدم الرغبة ، فالفرد سواء كان مستنيراً أو مستبداً هو بحاجة أدوات ومؤسسات رديفة تهيئ الأجواء للهدف المنشود الذي ينشده، ولهذا كل روّاد النهوض احتاجوا مؤسسات كبيرة وقوية وإن كانت ضعيفة أو مفقودة أوجدوها أولاً كمؤسسات اقتصادية كبيرة واجتماعية وعلمية وغيرها، ولهذا فبعض الدول المستبدة تخشى من المؤسسات الكبيرة التي يديرها أكفاء، وإدارات متعاقبة أو حتى أشخاص فيقضوا عليها بحجج كثيرة.

 ولهذا فما أريد أن أخْلُص إليه وذكره عدد من العلماء والمختصين ومنهم (جيمس روبنسون و دارن اسيموجلو ) في كتابهم كيف تفشل الأمم، وذكره الكثير من المختصين بعلوم إدارة الدول، بأن المؤسسات الكبيرة والقوية المتعاونة المتكاملة وشيوع أخلاقيات العمل لدى المجتمع هو السبيل للنهوض .

إن النهوض قرار ويحتاج إلى القرار الجريء من مؤسسات قوية منظمة وقيادة مستنيرة قوية واعية في أجواء حرة، فالشعوب التي تخشى التغيير أو تستمر في حالة الفوضى وإضاعة الأوقات والتفكير غير الاستراتيجي كعقلية الدكاكين الصغيرة والمكاسب السريعة دون مكاسب وأهداف استراتيجية، هذه لا تبني مؤسسات قوية. ولابد من التخلص من رُهاب التغيير وحالة عدم الاعتراف بالفشل والغرور بالإرث الحضاري بلا واقع حضاري نصنعه ونعيشه، فهذا لا يساعد على النهوض، وعندما نكون بحالة غير منظمة وفوضوية فإننا نهدر طاقات وإمكانيات كثيرة، لهذا نحن مجتمعات تفتقر للمؤسسات القوية والكبيرة التي تكون دعائم وأعمدة للنهوض والوعي بهذا وأهميته الخطوة الأولى للنهوض، فالمجتمعات التي نهضت أصلحت المؤسسات الموجودة وساعدت على نشوء مؤسسات تكون فاعلة في طريق النهوض، وأصبح هناك شيوع معرفة بأخلاقيات العمل والنهوض، وأذكر أنّ طالباً في جامعة غربية وهو شاب من أسرة غنية ويأتي للجامعة بدراجته وليس بسيارته، سألته لم تفعل ذلك فقال: لأسباب كثيرة منها أنني أفيد جسمي وأوفر مالي وأوفر على الدولة دعم المادة المستوردة وأوفر على المجتمع عوادم محروقات بغنى عنها.! فأدركت أن هذه العقلية عندما تشيع لدى قسم كبير من المجتمع وليس بالضرورة كله نكون أمام شيوع معرفة وامتلاك لأخلاقيات العمل والنهوض بحق.

 

 

د- زكريا ملاحفجي

كاتب وباحث سوري

 

 
Whatsapp