صيف 2004 تعرفت على تاجر من حلب، قصدني في ميونخ فقدمت له المساعدة بتسوية بعض الأوراق فأصر أن يرد لي الجميل، ودعاني إلى العشاء. جلسنا في المطعم ورحت أسأله عن الوطن، وعن حلب، فكان جوابه أن الوطن يعيش حالة ازدهار وكل شيء صار في متناول اليد، وقال لي متفاخراً:
شوف أنا تاجر والفيزا أخدتها بربع ساعة والله يخليلنا الطيران السورية شي بيرفع الرأس ما بتحس إنك في الهوا.. ونازل هون بأحلى فندق.
ثانياً الوضع بالبلد صاير سمنة.. الموز بسعر التراب صار عنا تلفونات خلوي وسيارات على أبو جنب، الولاد صاروا شوفيرية، المعاشات صارت باللوج والقروض على أبو موزة، الله يخليلنا الرئيس رح يعمل البلد باريس، بتصدق إنو بيركب سيارته لحاله وبينزل على حلب.. بتشوفه بالسوق بتشوفه بالسينما بالملعب بالحارات بالمسرح لك ما ضل حدا بحلب إلا وتصور معه.
لم أناقشه وحاولت أن أغير مسار الحديث فسألته أين يسكن وكان جوابه:
بالسريان جنب فرع الأمن.. أحلا سكن... أمان وأحلا شباب.
سافر أبو صالح وكان يحمل علاقة مفاتيح عليها صورة رئيسه بشار، بعد عامين اتصل بي مرة أخرى والتقيته في ميونخ، وعدت وسألته عن الوطن فكان حزيناً ودمعت عيناه وهو يسرد لي حادثة تعرض لها ابنه صالح الذي كان يلعب الكرة مع أصدقائه في باحة المدرسة، وحدث أن الكرة انقذفت إلى فرع الأمن الذي يجاور المدرسة فتسلق ابنه السور ليحضر الكرة فصرخ به الحراس وتم الهجوم على المدرسة واعتقال كل الطلاب الذين كانوا في الباحة.. انخفضت نبرة صوت أبو صالح وهو يقول بألم:
الله وكيلك ما بيعرفوا الله ... يهود .. لك طلاب مدرسة كسروا عضامهم بأخمص البارودة.
ولما سألته عن الرئيس الشاب وباريس قاطعني بثقة:
الرئيس ما بيعرف وهيك شي ما عم يوصله .. المسكين عم يحاول يصلح البلد وعم يحارب الفساد (بس إش بده يعمل ليعمل) .. وتابع بأنه في هذه المرة إذا التقى برئيسه الشاب في سوق ما فسيعرض عليه المشكلة.
بعد أيام سافر أبو صالح. مرت سنون إلى أن اتصل بي منذ عام وأعطاني عنوانه، لم يكن نزيلاً في أحلى فندق كالمرات السابقة، بل في كامب اللجوء، وصل ألمانيا سيراً على الأقدام، ولم يحظ بمقعد على متن الطيران السورية العالمية، التقيت أبا صالح في الكامب وراح يبكي كطفل، ابنه صالح تم إعدامه أمام المنزل بتهمة التعاون مع الجيش الحر، وابنه الثاني خطفته جماعة الحياني فدفع الملايين ليسترجعه وبعد أسابيع تم قنصه في بستان القصر.
راح يبكي ويبكي ويشهق وهو يرفع يداه مستغيثاً:
الله يحرق قلبه متل ما حرق قلوبنا ها الابن الحرام.. الله يخرب بيته متل ما خرب بيوتنا.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري