عشرة أسباب تدفعك لزيارة إسطنبول


 

 

 


 

ظلّ الأصدقاء!

يكفي أن تشعر أنهم يشاطرونك المدينة، يتنفسون هواءها، تتخيَّل مساءهم، هذا يبحث عن سفر، وذاك منشغلٌ بحبيبته، وتلك تفكر بما ستلبسه غداً!، أحدهم يبحث عن عمل ويشتم أصدقاءه العاملين ممن "يطنشونه"، وآخر يحاصره إيجار غرفته، تلكَ ضاقت بها اسطنبول، صديق آخر يشتكي من ازدحام عمله ومواعيده، ليت الأربع وعشرين ساعة تتضاعف، وآخر منزعج من نفاد النبيذ الذي يحبه، ورابع يقطع مسافة طويلة كل جمعة ليجد خطيب جامع بالعربية، صديق يدمن "أركيلته" في الفاتح، وآخر لا يستغني عن السمك الطازج، وصديقة فرحة بشرائها جوارب منسوجة بيدي امرأة مسنة في أحد أنفاق اسطنبول وقد تعبقت برائحة يديها، آخر يشتم الشحاذين، وصديقة لا يمكنها أن تتجاوز شيبة ذقن شحاذ يستحضر صورة جدها.

الأصدقاء الذين يختلفون حد اللالقاء، منهم ممن لم يصل إلى مركز المدينة منذ شهور وثالث يزور الغراند بازار كل أسبوع ليأكل وجبة (سودة) على كرسي صغير.

صديق لا يستغني عن الكنافة والمدلوقة عند باب الفاتح وثالث "يؤركل" في مرمريتا ورابع لا يستسيغ الفول إلا إن كان (على كيف كيفك!)، صديق يبحث عن (بلم) يستنكر عليك زيارة بلد عنصري، وآخر لا يكتفي بالحياة في اسطنبول بل يريد موته هنا لعل ماراً يقرأ الفاتحة عليه، أو روح متصوف ترحب به!، لا ينتظر الأصدقاء هنا أن تسألهم عن النصيحة، بل يبادرون بتقديمها كما تحب أن يكون ذلك، هذا يقول لك لا تعد وآخر عد، لكنّ كليهما يحبانك، يشاطرانك التجربة، لا تقول عيونهم غير الصدق! وثالث حذرٌ من نصيحة لا يريد تحمل مشقة مستقبلها أو مستقبل نظرة لائمة منك ذات مستقبل: لم نصحتني؟

تتخيل أولئك الأصدقاء ممزوجين برواياتهم وشعرهم وقصصهم القصيرة وطموحاتهم: - يا الله كم يجعلون المدينة جميلة!

هذا سرقه العمل من فرحته بمجموعته الشعرية فتدق بابه لتسأله عن مقطع تود أن تسمعه بصوته، وذاك تقول له: اقصص علينا يا صديق ما رأيته في المنام، وثالث تسأله عن سر سرده الذي لا ينضب.

تفرح بطالب أو باحث أو صديق، هذا صار عميد كلية وهذا رئيس قسم وهذا أستاذ جامعي، ظلهم لا يملأ اسطنبول فحسب بل كل تركيا: تقول ما أجملكم حين تكبرون!،

تهدهدك خطوات من الفرح بأن يشاطرك الهواء نفسه نصف مليون سوري، هذا مبدعٌ وهذا فنان وهذا موسيقي يلتقط كلمة من لهجتك ليحول موسيقاه إلى إلياس خضر!

قالوا لي اسطنبول لا تشبه مدينة أخرى، ثمة مدن في العالم وثمة اسطنبول، مدينة تعشق السهر، تفتح أبوابها مبكراً لمحبي المشاوي، وتجعل المصابين بمرض السكر يموتون مبكراً، فلا يستطيعون الصبر أمام الحلويات السورية أو التركية التي تحاصر قدراتهم على النظر، فيقول الواحد منهم سآكلن صحن الكنافة هذا وبعدها مرحباً بالموت صديقاً!

وجوه المكان المخاتل

منطقة السلطان أحمد "مرجة دمشق" في لحظة تذكر، تستفز فيك تلك المدينة الذاكرة الدمشقية، لستَ معنياً بإيجاد متشابهات محددة، تقف أمام شباك غرفتك المقابل لإحدى طلعاتها، فتحسب نفسك في جادات المهاجرين، يمر باعة الخضار، وها هو بياع التماري كعك، عفواً بياع السحلب فيختلط وجه دمشق بوجه حلب، وبعد قليل يعيدك بياع الخضار وهو يصيح على خضاره إلى حاراتنا فتركض نحو الشباك لتقول له: انتظر! وقبل أن تفتح الباب تتذكر أنك تعيش في فندق ولست معنياً بتأمين مستلزمات الطبخة اليوم!

وهكذا حين تدخل الغراند بازار تقع ضحية ذاكرتك، هذا يشبه، وهذا لا يشبه، مستعرضاً أسواق الحميدية، مستثمراً وجوه البشر والباعة لتقارنها بوجوه مرت معك أو تفترض أنها مرت معك، حلويات حفيظ هي حلويات أسدية في المرجة وربما حلويات نبيل نفيسة أو.. أو سواها، هنا كذلك يتفاخرون بأن هذه الحلويات لها عمر، هي ليست موبايلات لتفتخر بأنها صنعت اليوم أو غداً، تتذكر أنه في الأطعمة يكون القِدم علامة تميز!

تقول لنفسك لحظة: المدن التي تقدر الطعام وتهتم به مدن تتسم بالعراقة، وكثرة السياح، فالمطاعم لا تفتح كل أبوابها لساكنيها، غالباً تفتح كل أبوابها للعابرين، لا تجهد نفسك بالتأكد من دقة هذه المقولة أو عدم دقتها، فضجيج الحياة الذي تعثر عليه في مدينة لا تنام يتكفل بتزويدك بعشرات المقولات التي تريد من خلالها أن تصف المدينة!

مدينة في دولة، هي هولندا في عدد سكانها وربما في طولها، لكنها بالتأكيد ليست في حميميتها، هذه المدينة تعرفها من قبل، مدينةٌ تجمع البحر والجبل والسهل والدائرة، بل إنها تجمع قارتين!

 

يحسب السوري أنها دمشقه وحلبه وديره وحسكته! ها هو المصري الفاقد القاهرة سمحت له اسطنبول بإقامة سوقه، والعراقي فاقد بغداد كذلك والجزائري واليمني!

أي مدينة ذكية تسمح لك بأن تعيش مدنك دون أن تفقد نفسها، أن تطوعك لتكون جزءاً منها، وليس لتنفصل عنها، أتذكر جرمانا وكيف كان مدخلها مكاناً لمحلات ومطاعم عراقية وكيف نبذناها أو تطيّرنا منها، مركز المدينة مدينة في ذاتها ها هي صالحية اسطنبول: تقسيم بسوقها الكبير والناس التي تمشي في طريق مكشوف الملامح، عدا حاراته التي اختص كل منها بخاصية ما، تتناول المصاص المعسل من بائع في الشارع فتتذكر طعماً مر عليه ما يقرب الخمسين عاماً!

بائعو إسطنبول يجيدون إخفاء خيبتهم من مشتر، تذوق طعامهم أو قضى وقتاً ثم برم شفتيه ليخرج دون شراء!، وبعد يوم أو يومين تكتشف أنك يمكن أن تبرم مركزها مشياً، جزء من بحر يسلمك إلى جبل، وسوق يسلمك إلى مكان أثري، وبائع سمك يصطاد سمكه طازجاً يسلمك إلى بائع شاورما، وهكذا عيونهم على جيوبك يرحبون بك على أمل أن تفرغ ما فيها قبل أن تعود إلى مكان سكنك، أنت لا تخيب أملهم، فتأكل ما تتحمله معدتك وما لا تتحمله، تقترح على نفسك آخر الأمر، ليت للمسافر بطنين ومعدتين لا لشيء بل ليستطيع في وقت قصير تذوق أصناف الطعام في المدينة عبر سفرة واحدة!

تُشبع هذه المدينة جزءاً من شوقك إلى مدينة شرقية بعد فراق رائحة هذه المدن ست سنوات!

 

 

د. أحمد جاسم الحسين

أكاديمي وناقد سوري

 

Whatsapp