قد كان موقف البرلمان التركي جديرًا بالاحترام على مستوى الشعوب والدول، بما أبداه من حساسية رفضت الخطة التي أعلنها ترامب تحت مسمى صفقة القرن، والتي تضاهي في الحقيقة بعارها وعد بلفور ذاته. إن الشعور الموحد الذي أظهره جميع أعضاء البرلمان التركي، إزاء هذه القضية التي هي قبل كل شيء قضية إنسانية من شأنها تحديد السلم العالمي، قد حاز على أهمية سواء في تركيا أو على مستوى المنطقة والعالم.
هذا الشعور الذي أبداه مجلس البرلمان التركي يبدو أنه أزعج قادة العرب الذين لا يمثلون شعوبهم والذين لا يمكن وصفهم بالأكفاء، لم يفهموا سر اهتمام تركيا بالقضية الفلسطينية. الغريب أيضًا التقييمات العديدة التي رأيناها على مواقع التواصل الاجتماعي التركية حول ذلك، كانت مفتقرة للمعلومة التاريخية، تمامًا كما هو الحال في القضية السورية.
كانت الأسئلة على هذا الشكل: ماذا تفعل تركيا في سوريا، ولماذا تهتم تركيا بالقدس وفلسطين؟
على الرغم من الإجابة عن هذه الأسئلة أكثر من مرة، إلا أن تكرار ذلك لا يخلو من الفائدة. لكن من ناحية أخرى، إن الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي سواء في تركيا أو حول العالم كله، يشعرون بمتعة حين الأخذ والرد فيما بينهم. في وسط يهيمن فيه الكذب بدلًا من الحقيقة، القول المأثور بدلًا من المعرفة، المغالطة بدلًا من الدليل، المصلحة بدلًا من الضمير، والكل يتكلم حسب طينته التي جُبل عليها.
حتى لو أردنا غض النظر عن الآراء السلبية التي تهيمن عليها تلك المبادئ، فإن الآراء الإيجابية أيضًا مع الأسف تمشي على السياق ذاته.
على سبيل المثال، حينما يتم مقارنة وجود تركيا في سوريا مع وجود المواطنين العثمانيين القدامى من إدلب وحلب وفلسطين في معركة جنق قلعة، إلى أي مدى يبدو صحيحًا أن نستبدل منفعة ماضية بالضمير الذي هو السبب الحقيقي وراء هذه الأمور؟.
هل من الأخلاق أن نخلط الدفاتر القديمة من أجل التبرير للتدخل في قضية إنسانية، ضد الظلم والطغيان، أمام مليون ضحية قتيل و12 مليون مهجّرين من بيوتهم وبلدهم؟ هل يختلف من يقوم بذلك عن الذين يستخرجون من تلك الدفاتر خصومات وعداوات.
إن القضية الفلسطينية والسورية هي قبل كل شيء قضية إنسانية. لكن إن لم يكن ذلك كافيًّا بحد ذاته وتريدون مبرّرًا لذلك؛ فمن الطبيعي نعم أن نتذكر بأن فلسطين وسوريا هما قضية تاريخية بشكل مباشر بالنسبة إلى تركيا، وليستا مهمتان فقط بالنسبة لحزب أو جهة ما. وعلينا أن لا ننسى أن موقف البرلمان نابع من هذا الشعور.
لقد بدأت مخطابة الدولة العثمانية في الواقع حول القضية الصهونية، ما بعد العام 1896. في ظل ظروف تلك الحقبة الزمنية، ربما كانت الدولة العثمانية التي كانت تدير بشكل جيد الضغوط الدولية القوية، لم تنجح في منع هجرة اليهود إلى فلسطين بشكل كامل، إلا أنها استطاعت تأخيرها ومنع تحقيق أحلامها حتى عام 1917. إن وثيقة التعاون المشؤومة التي تمت بين الإنجليز والصهانية آنذاك، ولدت بينما كانت الدول العثمانية تحارب على الجبهات، وتحاول عبر الميثاق الوطني إيقاف الإنجليز والفرنسيين على الحدود بشكل جزئي.
إن إعلان وعد بلفور الذي وعد الصهاينة بإقامة دولة، قبل وقت قصير من احتلال الإنجليز للقدس، ألا يدل على هذا على معنى ما؟ أليس هذا واضحًا من احتلال الإنجليز للقدس في 9 ديمسبر/كانون الأول، بعد أن أخذوا الإذن من الصهاينة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، مقابل وثيقة العار تلك.
في ذلك الوقت، لم يكن بيد الحكومة العثمانية في إسطنبول شيئًا لتفعله. كانت التقارير تتضمن عبارات الاحتجاج والاستنكار الشديد. لكن البرلمان العثماني والميثاق الوطني علقا الأمر بيد حركة النضال الوطني في منطقة الأناضول.
على الرغم من معرفتنا النذر اليسير حول الجزء الآخر من القصة، فإننا لا نعلم أن البرلمان التركي عام 1922 قد ناقش القضية الفلسطينية التي باتت حينها خارج الحدود.
في جلسة برلمانية انعقدت برئاسة علي فؤاد باشا بتاريخ 12 ديسمبر 1922، اقترح النائب البرلماني عن أرضروم حسين عوني بك، مناقشة ورقة التماس. هذا الالتماس الذي تم التوقيع عليه من قبل كلّ من النائب الموسوي ميشون فانتورا، وأصدقائه، طالب بتحرك تركي على الساحة الدولية من أجل ضم فلسطين تحت الإدارة التركية. على الرغم من وجود طلب مذهل من هذا النوع في ظل الظروف الصعبة التي كانت قائمة، لم يتحدث أي نائب برلماني بشكل سلبي حول ذلك، باستثناء النائب عن أنطاليا راسخ بك. على سبيل المثال، بينما كان الحديث يدور حول ذلك، تطرقوا ليهود السفارديم الذين لجؤوا للدولة العثمانية منذ عصور، حينها قال النائب البرلماني عن طرابزون، علي شكري بك:
"أيها الأصدقاء!... نحن ننسى أن دماء الكثيرين من أبناء هذه الأمة تدفقت على أرض فلسطين. كما ننسى أننا صرفنا الملايين للحفاظ على فلسطين وننسى مادة من الميثاق الوطني. أيها السادة! إن هذه المادة من الميثاق الوطني تقول: نطالب بحرية الذين هم على ديننا وخارج حدودنا. اليوم يبدو أن الموسويين أنفسهم والذين ليسوا على ديننا يقومون بتفويضنا، فضلًا عن الذين هم على ديننا. وأرى أنها خطوة وضعت لتحقيق هذه المادة من ميثاقنا الوطني".
هذه الكلمات التي كانت تجسد حقيقة القضية على أنها فعلًا مطالبة بالحرية، وليس بمجرد قطعة أرض، واسمحوا لي أن أختم المقال بجملة تشبه ما قاله النائب علي شكري بك:
على برلماننا أن يتخذ قرارًا اليوم. على الهيئة المسؤولة أن تتابع جميع القضايا الأخرى وليس القضية الفلسطينية فحسب. يجب أن تكون هناك مباردة وسعي حثيث على أتم وجه، في سبيل تحقيق الحرية لمن هم على ديننا وخارج حدودنا الوطنية.
خلاصة القول؛ القضية الفلسطينية والسورية هما الميراث التاريخي للدولة التركية.