على قارعة الانتظار، جلست ابنة العشرة أعوام، بقامتها الطويلة النحيفة وشعرها الذهبي المموج، ترتدي حذاءً رياضياً وبنطالاً من الجينز الأزرق، ترقب بنات حيها ورفيقاتها تحت شمس آذار الماكرة.
حملت نسمات خفيفة ذاك الكيس الورقي الذي أحكمت قبضتها على أطرافه العلوية بعد استيقاظها على صوت أيقظها من غفلتها، فموكب الصغيرات الذي لاح لها عن بعد بدا وكأنه أسراب مبعثرة لطيور تقفز وتزغرد في مواسم الحصاد، فأشتال الزعتر التي ملأت سفوح الجبال قد أينعت وحان قطافها، ولكن قلب الطائر الجاثم في أعماقها أصبح ينكمش أحياناً ويعصف أحياناً أخرى، كلما اقتربن خطوة باتجاهها، ثم ما لبثت أن انضمت للركب كطير جريح يرغمه عشق الحياة أن يدوس جراحه، ليقنع نفسه بأنه مازال بخير.
الصغيرات بدأن يتنقلن بين أشتال الزعتر الخضراء الغضة، وكل واحدة منهن تحاول جاهدة أن تسبق رفيقاتها من أجل أن تملأ كيسها وتعود إلى بيتها وقد نالت ابتسامة رضى من أمها، ولتثبت للجميع بأنها الأكثر كفاءة.
كل هذا يحدث والطفلة جاثمة في مكانها لا تكاد تبرحه إلا خطوات، لتعود إلى مكانها منكمشة كسلحفاة بات يتهددها خطر محدق، حملقت مذعورة في الوجوه حولها، في حين غاب عن المشهد الوجه الأقرب، وجه الصديقة والرفيقة، لا بد وأن طارئاً ما قد منعها من الحضور، إذن من الذي سيعود بها هذه المرة من حيث أتت؟ وكيف سمحت لأوهامها بأن تقودها إلى حتفها؟
وفي الوقت الذي بدأت الشمس تلوح مودعة، كانت كل رفيقة تطمئن على ما جمعته من أوراق الزعتر البري الغض، فهذا موسم يجب ألا تفوته العائلة، التي تعتمد بشكل كبير عليه في غذاء أطفالها.
لم يبقَ من وجه الشمس سوى خط أحمر أشهر إنذاراً أخيراً في وجهها، استجمعت الطفلة السلحفاة كل ما لديها من الشجاعة وهي تستدير برأسها لترى أطياف قريناتها يتحولن إلى أشباح ترقص على نعش الصداقة والجوار، ثم تتلاشى وتختفي كذيل أفعى قد غار في جحر مظلم.
ولكن الصوت القادم من العدم، وفي هذه اللحظات بالذات، لحظات الغياب، غياب الأمان، ورفيقاتها، وغياب الشمس، أخرجت الفتاة رأسها الذي بدأ ينكمش مع انكماش أشعة الشمس، لتتحقق من مصدر الصوت الذي بدا وكأنه أتى من عالم آخر، حتى أيقنت بأنه يكلمها هي، إذ لا يوجد في هذه البقعة الموحشة سواها:
هيه هيه أنت أنت!
أنا!
نعم انت!
اصعدي الجبل والحقي برفيقاتك بسرعة! لقد أزف الوقت وأوشكت الشمس على المغيب.
لا أستطيع.
إذن اهبطي الجبل وغيري المسار.
غير أن صوتها جاء مخنوقاُ مترنحاً:
لا أستطيع.. لا أستطيع.
دوت ضحكة أسفل الوادي ردد صداها الطير والجبل، لقد عرفته في الحال إنه الشاب الذي يكبرها بأعوام، اعتاد أهله على زراعة أسفل الوادي كل عام وقد كان يأتي كل يوم لغايات الحراسة، أعادت رأسها للانكماش وتشبثت بكلتا يديها بالعشب الأخضر الطري، ولكن الغيمة السوداء التي انفصلت بسرعة عن قريناتها أبت أن تتركها وحيدة فبدأت ترشقها بقطرات كبيرة متلاحقة لامست وجهها واختلطت بدموعها التي بدأت تنهمر بغزارة، أدارت رأسها للوراء، حركت قدميها بصعوبة في الوقت الذي كانت يداها تتشبثان بالعشب المبلل الذي خذلها مراراً كلما كانت تحاول الإتكاء عليه:
لا تتحركي انتظري أنا قادم!
عاد الصوت من جديد، شعرت بخوف شديد يتملكها، نهضت بسرعة، مشت بخطوات متثاقلة محاولة الصعود وهي لا تفتأ تنكمش على نفسها كلما لاح لها مأزق، كان دخول الشمس في سباتها وصوت الريح الذي يبعث بعواء ذئاب متعطشة للحم الطري يدفعان بها بأن تنسى خوفها وتسرع بخطاها على العشب المبلل الذي أبى وللمرة الأخيرة أن يتشبث بأقدامها الصغيرة المترددة تاركاً الجسد المرتجف يتدحرج في مهب الريح.
آسيا الطعامنة
كاتبة جزائرية