الثورة السورية. تنتصر على "التابويات"


 

 

 

مضت تسع سنوات كاملة على اندلاع الثورة السورية، وعلى الرغم من جميع أصناف القسوة والوحشية التي جوبه بها الشعب السوري، إلّا أنّ ثورته ظلّت راسخة في قلوب وعقول الملايين، وها هي اليوم تثبت تجذّرها وأصالتها من خلال ما تشهده محافظة درعا من تمرّد وصدامات مسلّحة ومظاهرات شبابية رافضة للاحتلال الروسي والإيراني ومؤيّدة لعملية "درع الربيع"، بعد أن ظنّ النظام وحلفاؤه بأنّ المحافظة التي انطلقت منها الثورة قد قدّمت فروض الطاعة والاستسلام.

وفي هذا العدد الذهبي (100) من صحيفة إشراق، الذي يصادف صدوره مع ذكرى الثورة السورية العظيمة، أجدها بشارة خير بقرب النصر على طغمة الأسد في دمشق وحلف الإجرام الروسي الإيراني الذي تلقّى ضربة موجعة جداً في إدلب منذ اللحظة الأولى لإعلان "درع الربيع".

إنّه عدد ذهبي بامتياز حين تجتمع فيه مناسبات ثلاث على غاية من الأهمية بالنسبة للشعبين السوري والتركي وقد امتزج الدم على تراب إدلب فتقاسموا شرف الشهادة ضدّ قوى الظلام، بعد أن كانوا قد تقاسموا قبلها الخبز. 

في "إشراق" تبرز بشكل واضح إحدى تجليّات الأخوة التركية السورية، فها نحن نتشارك ذات المنبر الإعلامي من باحثين وكتاب وأدباء أتراك وعرب، فكانت بحق سباقة في هذا المضمار، وأنتهزها فرصة لأوجّه شكري واعتزازي بالانتماء إلى هذه الكوكبة المتميّزة من أصحاب الفكر المتنوّر والأقلام الملتزمة بقضايانا الجوهرية، في خضم عالم موبوء بكل أشكال الفساد الفكري والانتهازية والتضليل.

في الذكرى التاسعة للثورة السورية العظيمة، لا بدّ لي من مراجعة سريعة وشفّافة لما أنجزته الثورة بعيداً عن المعايير العسكرية وحسابات الربح والخسارة في جغرافيا الوطن.

يرى المتشائمون (وهم كثر) أنّ الثورة انحرفت كثيراً عن مسارها ولهذا وصلت إلى حالة الموت السريري، وأن الأثمان الباهظة قد دفعها الشعب السوري ولم يحصد سوى الألم والحسرة وسنوات من التيه.

أما المتفائلون ( وأنا منهم ) فنقول: هذا ليس حالنا رغم المشهد المأساوي الراهن وملايين من المهجرين واللاجئين، والنازحين الذين تقطعت بهم السبل وباتوا بلا مأوى، ولكن الحقيقة تكمن في مكان آخر، فتراكم المعاناة والمعايشة اليومية لكل أشكال التطرف الفكري والعقدي والسياسي، أعادا صياغة العقل الجمعي ليس لدى الشعب السوري فحسب بل لكل شعوب المنطقة عامة، فاضحت جميع (التابويات) التي كانت حتى وقت قريب من المحرمات وممنوع المسّ بها، نجدها اليوم قد سقطت، أو على الأقل أصبح تداولها يكاد يخلو من كلمات التبجيل والقدسية، بل وصل الأمر أحياناً إلى التطاول عليها والانتقاد حتى من داخل البيئة الحاضنة لها.

وعلى سبيل المثال وبمقارنة سريعة لصورة حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله، كيف كانت قبل الثورة السورية وكيف هي اليوم ليس في الشارع العربي فحسب، وإنّما حتى ضمن الطائفة الشيعية نفسها وتحديداً اللبنانية، فبعد أن كانت تلك الحواضن تنتفض غاضبة إذا ذكر اسم حسن نصر الله غير مسبوقاً بصفة (السيد)، باتت اليوم أقل حدةً إزاء ذلك بل وصلت الانتقادات في الفترة الأخيرة إلى درجة التخوين.

وهذا ينسحب على كلّ الحكام العرب بدون استثناء بما فيهم المجرم بشار الأسد الذي وصل الانتقاد والتطاول عليه حتى من داخل حاضنته وشبيحته.

على الجانب الآخر استطاعت الثورة أن تكشف الكثير من أمراض المجتمع السوري الفكرية والعقدية التي كان يعاني منها بما فيها النخب السياسية التقليدية، فأسقطت الكثير من المفاهيم التي كانت مسيطرة على نسبة كبيرة من المجتمع (بالتوارث) دونما إعادة النظر في تلك المفاهيم، الأمر الذي أفسح المجال لبعض التنظيمات المتطرفة أن تجد لها موطئ قدم في الساحة السورية ومصادرة المشهد الثوري لبعض الوقت أمثال داعش وجبهة النصرة وحزب العمال الكردستاني بنسخته السورية، ولكن لم يمض الكثير من الوقت حتى سقطت هذه التنظيمات وأفكارها المتطرفة من عقول وقلوب الحاضنة.

لقد استطاعت الثورة خلال السنوات التسع أن تعيد الشارع العربي إلى جادة الحقيقة، وأن تلهمه الشجاعة للتصدي لكل أشكال الفساد والاستبداد، وخير دليل على ذلك هو ما يحصل في العراق ولبنان اليوم وما حصل من قبل في السودان والجزائر وربما نجده قريباً في مصر. لقد أنجزت الثورة السورية الشيء الكثير رغم التكالب عليها، وما زالت صامدة متوثّبة تستمدّ حيويتها وعنادها من تضحيات الشهداء وآلام الأمّهات ودموع الأطفال، لتقود قافلة الربيع العربي ولن تكلّ أو تتراجع حتى تصل إلى غاياتها النبيلة.

 

 

ياسر الحسيني 

كاتب وإعلامي سوري

 

Whatsapp