كلما أطفأوا لها شعلة توهجت أخرى، رافقت سنواتها التسع حكايات لا تنتهي، وانكسارات لا تتوقف، وابتلاءات يطول حصرها وأنينها، ثورة لا يوجد في معرّفاتها ولا في قواميسها معنى للتراجع أو الهزيمة، ما تزال صامدة أمام آلة الشر وأحلاف المال وأسياد الأمم.
بالإمكان أن نسرد حول تخاذل المجتمع الدولي، وعجز الأمم المتحدة والصمت العربي أمام تدمير الحاضرة السورية والتغريبة المدبرة والمقتلة الممنهجة، فمن طَمْس البدايات المشرقة والشعارات السلمية المطالبة بالحرية والكرامة، إلى رسم النهايات فيما بعد.
فأسلحة الأسد كثيرة لا تقتصر على مخابراته وجيشه المصنوع على مقاسه ومقاس عمالته، ولا على إيران وميلشياتها الطائفية المتعددة الجنسيات، ولا على بيع السيادة والوطن للمحرقة الروسية، ولا على شركاء العمالة والاستبداد، وقبل تأسيس شركات الأيدولوجيا المتطرفة العابرة للحدود.
الحكاية قبل ذلك بكثير
منذ استيلاء النظام على السلطة في سورية، ثم تطويعه للقوى والأحزاب المعارضة بالترهيب والتغييب والقتل، عمل على سلاحه الأخطر في تغيير البنية المجتمعية للمجتمع السوري وتحويل الكتلة الصلبة إلى كتلة جوفاء، متفرقة، منقسمة، ممزقة وخائفة.
جميع المظاهر السلوكية اندرجت تحت النظم الاجتماعية التي فرضتها سلطة الخوف ضمن تصنيفات رتيبة في الإطار العام بما يتوافق مع الإرادة الاستبدادية ديدن الأنظمة الشمولية المغتصبة للحكم بالقوة والترهيب، وتسلطت على الشعوب باللاشرعية، وحافظت على وجودها بالقمع والاستبداد، وتبديد ثروات الأمة في بناء الترسانة العسكرية والأمنية في تحقيق حمايتها من شعوبهم، وتمويل الشقاق المجتمعي وزرع بذور التفرقة والفتنة بين مدينة ومدينة وقرية وقرية، وتفكيك مفهوم الدولة في المساواة بين أبنائها ورعاية أمنهم ومصالحهم إلى شبه دولة مفككة في الصراعات البينية حسب الطبقات والأعراق والطوائف باستخدام جميع الوسائل المتاحة بدءاً من الفقر والدخل المتدني كبوّابة للفروقات الطبقية الهائلة بين طبقة ضئيلة مستفيدة وطبقات فقيرة وفقيرة جداً غير قادرة على الخروج من عنق زجاجة النظام الحاكم، الذي بإمكانه تطويعها.
مروراً بالتجهيل كسمة عامة نتيجة الاستبداد والفقر، ففي بلاد الاستبداد هناك سقف لكل شيء، من اختيار المنهاج، وتحديد الكتب المتوافقة مع سياسة الدولة والمناهضة منها، والرقابة السياسية لدور النشر والسينما والأنترنت إلى التحكم بعقول الناس بفرض إعلام الدولة ورؤية الدولة والحاكم بطبيعة الحال.
الشروخ الاجتماعية لم تكن يومًا أصيلة في سورية ولكل من قرأ عن المجتمع السوري سيجده متلاحماً صلباً، متآلفاً منفتحا ًضمن هذه البقعة الجغرافية التي جمعت الكثير من الأعراق والأثنيات والأديان، والتذكير ببعض الحوادث هنا وهناك لم تكن إلا حوادث عابرة أشعل فتيلها عناصر من خارج المجتمع السوري الذي سرعان ما احتواها وتعامل معها.
والعجيب أن تطور الصراع الطبقي الذي احتدَّ بعد الوضع الاقتصادي والمالي سنة 1930 عقب الأزمة الاقتصادية والكساد العالمي أو ما يسمى فترة ما بين الحربين العالميتين لم يكن ملحوظًا في سورية، واستطاع السوريون تجاوز الأزمة حين تعاضد العمال مع البرجوازية الصغيرة في جبهة مشتركة في مواجهة سياسات فرنسا الاقتصادية في التضييق على العمال وتخفيض الأجور ورفع الضرائب.
في المقابل لم تكن الخلافات السياسية على الوطن ومكوناته وأقاليمه بالمطلق، بل جميعها تحت جناح الحركة الوطنية السورية التي كانت تقود التوجه إلى حكم جمهوري.
لو عدنا للأرشيف السوري في اجتماع المجلس المركزي للكتلة الوطنية بمنزل ابراهيم هنانو في حلب والبيان الذي تلاه هاشم الأتاسي الذي شجب فيه اقتراحات المندوب السامي التي أفصح عنها بونسو أمام عصبة الأمم في جنيف في اقتراح تقسيم الإقليم الخاضع للانتداب الفرنسي إلى منطقتين، منطقة المعاهدة وتشمل دولة سورية، والأخرى منطقة انتداب وتشمل لبنان الكبير ودولة العلويين وجبل الدروز، وتشديد الأتاسي والكتلة الوطنية على أن الوطنيين السوريين يرفضون اقتراحات فرنسا، وأكد حرص الكتلة الوطنية على تحقيق حقوق بلدهم ومصالحه والتمسك بالوحدة الوطنية. وهذا ديدن السوريين على المستوى السياسي فلم تتصدّر حادثة أو تصريح ينافي القيم الإنسانية والوطنية، وانحصرت الخلافات حول طريقة الإدارة والحكم وهذا حاصل ومحمود في كل الدول المتقدمة.
على مستوى الجمهور المشبع بالروح الوطنية والإيمان بأن كل جزء من الشعب يكمل الآخر وهذا ما دعا سورية للتقدم على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل ملموس ومتسارع حتى أصبحت قدوة لكثير من بلدان النمور الآسيوية، وبطبيعة الحال هذا رفع من مستوى دخل الفرد، وتصدر الطبقة الوسطى الحامل الرئيس للمجتمعات المتوازنة بشريحة كبيرة ونسب عالية.
الطعنة الأولى بدأت باستلام حزب البعث الذي بدأ تدميره مع الأيام الأولى لاستلامه السلطة بالنحو تجاه التأميم والقضاء على الطبقة الوسطى، بادعاء النهج الاشتراكي كواجهة تغطي عملية التدمير الممنهج لعجلة الاقتصاد، والدخول لمرحلة شلل الاستثمارات، والدخول بنفق التخريب المتعمّد للمؤسسات الخاصة والتابعة لملاك الدولة، وتحكم العسكر الطائفي وانعكاساته الخطيرة على جميع مناحي الحياة في سورية.
خمسون سنة لم يتقدم هذا النظام خطوة واحدة على أي مسار، ولم يصدِّر إلا الفساد والنهب وزراعة الشقاق، وتوسيع الشروخ الذي بدت خطورته على جبهات الصراع بين من سقط وباع وخان مقابل من احتفظ بقيم الأصالة والتاريخ لهذا البلد العظيم.
الربيع العربي جاء تلبية للمِّ الشتات والانتفاض على الذات، وأن مازال بقية من أمل في استعادة الحقوق، وتحطيم القيود، والقدرة على النهوض وبناء الوطن والإنسان من جديد.
استجابة السوريين كانت بقدر تعطُّشهم للحرية، وصبرهم كان بقدر الألم الذي رافقهم لعقود، بطريقٍ لا عودة منه حتى انتزاع الحريّة وتحقيق العدالة.
محمد الحموي كيلاني
كاتب وإعلامي سوري