علبة سردين


 

 

 

وفقاً لاعتبارات خاصة يبدأ الرومان عامهم بشهر آذار. بالنسبة لي لا يحتاج آذار إلى أن يستلم قيادة شهور السنة كي أتأكد من تفوقه، فآذار شهر استثنائي يُقبِل بكامل حنانه، يحمل الربيع تحت إبطه، ويَعدني بانتهاء برد قارس، وتسلل أشعة شمس حذرة تدفئ اسمنت جدران خزنت البرودة والرطوبة في منزلنا سيء التهوية الذي حُشرنا به قبل أن تتزوج أخواتي الثلاث البنات، وتموت أمي. بعد سفري إلى دبي، بقي فيه أخي الأصغر وأبي كآخر ذكور القبيلة.

بشائر آذار هذه المرة كانت أفضلَ من أفضلِ توقعاتي، ففي اليوم الخامس عشرة منه، كنت قد عدت من العمل، ضيق الخلق، يقرص الجوع بطني، وينحصر تفكيري في سلق بيضة وفتح علبة سردين، حين رن هاتفي النقال، وفي جملة واحدة مختصرة أخبراني بأنهما رجعا للتو من المظاهرة. 

- مظاهرة.. مظاهرة ؟!

رد: لن تصدق؛ لقد وصل عددنا إلى خمسين شخصاً..!

 شهقتُ. 

عادة ما أشهق لأسباب أقل بكثير مما سمعته، استغرقتني الدهشة بضع ثوان حتى استوعبت المفاجأة. كيف لمدينة اعتادت رهبة التقارير الأمنية ومسيرات التأييد أن يخرج من أحد شوارعها مظاهرةً ترفع شعاراتٍ لا تخص التنديد بالعدوان الاسرائيلي، ولا تناهض الامبريالية الرعناء، ولا تناصر المضطهدين في غوانتنامو..! 

كل من أعرفهم وأنا أولهم سبق لنا أن خرجنا أكثر من مرة في مسيرات التأييد والمبايعة، كانت بالنسبة لي مناسبة سانحة للمغازلة في الهواء الطلق، وتعقب طالبات المدارس والجامعات، أما بالنسبة للموظفين فكانت فرصة مشروعة للهرب من الدوام. في المحصلة كنا نصفق مع المصفقين، ونهلل مع المهللين. أما "المظاهرة" كما وصفاها لي، فأمر غير عادي بالمرة!.  

- ألم تخافا؟ 

أجابني ضاحكاً بأن الطقس كان دافئاً جداً، حتى أنه اضطر إلى خلع سترته والتلويح بها. وأقسم بأن شعوره بالخوف اقتصر على الدقائق الثلاث الأولى. قال لي بأنه انتظر في المكان المحدد عند الزاوية المقابلة لبائع الحلويات، وخلفه وقفت علياء التي أخفت شعرها السنبلي المقصوص جيداً بقبعة صوفية، أما هو فانتعل الحذاء الرياضي الذي أهديته له، وفي الوقت المتفق عليه سلفاً تركا حذر الرصيف وحماية المنعطفات وسارا حتى منتصف الشارع، كذلك فعل آخرون ظهروا من جهات مختلفة ومن مداخل الأبنية. بدأت الهتافات، استغرقت المظاهرة 15 دقيقة بالضبط، وحين وصلوا الساحة العامة وتفرق الجميع، أطلقا كغيرهم سيقانهم للريح هاربين من "التتار"، وكان يقصد رجال الأمن. 

كان أخي يحدثني بحماسة منقطة النظير كمن قبض بأصابعه الخمسة على سر الحياة ولا يريد تركها. وكنت قد استعدت أنفاسي المبهورة، وبدأت بالتعرق بالفعل. 

لوحتْ علياء التي حشرت رأسها يدها في مرمى شاشة كاميرا (الموبايل) وأومأت لي، قالت بأنها لم تخف ولا حتى في الدقائق الثلاث الأولى.

أضحكتني إيماءاتها، وفتنتني -كما الأيام الخوالي-عيناها الوحشيتان وقلبها الشجاع، أعرف أنه لولاها لما خرج أخي متحملاً تلك المجازفة.

كنت أستمع إليهما عبر "السكايب" وأتحول تدريجياً من غفلة الذهول إلى يقظة الفضول.

انهمرت أسئلتي:

- كم كانت الساعة؟

بتكشيرة أظهرت سناً مكسوراً فقده أثناء شجار طائش، أجاب أخي:

- الوقت لا يهم. لكن هل تتخيل الهتاف..! بدأ بطيئاً خاملاً متردداً ثم قوياً واثقاً هادراً، تردد صداه في رئتيّ وبطني وحواسي جميعها؛ كنشيد الحرية في السجون تمدد وارتفع حتى ملأ الفراغات والثقوب، طرقَ الأبواب، وفتح النوافذ ووصل حدود السماء، وتوقف هناك.  

- أصبحت شاعراً، والعياذ بالله. قل لي والناس يا أخي، ألم يخافوا؟

- ليس مهماً. 

- ليس مهماً.

تزامنت الإجابتان معاً كمعزوفة متقنة. هدأتُ، ولم تهدأ دقات قلبي القافز بين ضلوعي.

قلت: الحمد الله على السلامة. 

وقلت في سري: هذا جنون.

- سنخرج الأسبوع القادم أيضاً، اتفقنا على كتابات وشعارات نحملها معنا.

أخي يحب علياء منذ الصغر، ورغم محاولاته لإخفاء سر قلبه، إلا أننا جميعاً نكشفه حين يتحول إلى شعلة نشاط بمجرد أن يسمع صوتها، أو حين تلمع عيناه كلما توجهت بالحديث إليه. المعادلة كانت بالنسبة له بلا حل. لم يكن شجاعاً إلى حد مصارحتها بمشاعره، خشية فقدانها، فإن لم تكن حبيبته فإنها على أقل تقدير صديقته، هو الذي يعرج إثر كسر في قصبة ساقه فقد بعدها قدرته على المشي مستقيماً، وهي علياء بهية الطلعة بأهداب طويلة أطول من صبره وقدرة إلهية على خطف القلوب، تنشد رجلاً كاملاً لم تعثر عليه. 

كنا نقطن البناء نفسه، يفصل بيننا ثلاثة طوابق، وجيرة عمر، وأقدار لا تلتقي ولا تفترق، فأنا أيضاً أحببت علياء على نحو متقطع، حدث ذلك طوال عام 2008 وخلال الأشهر الأخيرة من العام الذي يليه، ومازالت تراودني محبتها في نهاية كل اسبوع تقريباً أو كلما التقينا. إنه توصيفٌ حقيقي لا يدعو إلى السخرية التي قد تشعرون بها حين قراءة كلماتي. أحبها بطريقة مختلفة عن طريقة أخي، ومشاعري نحوها تطفح بتقاطعات تدفعني إليها حيناً وتلجمني عنها أحياناً، في كل الأحوال لا أذكر أني حلمت بها كما يفعل العشاق المساكين، ليس لأنها لا تستحق الحلم، بل لأنني أكره الأحلام حتى ما عادتْ تراودني ولا عدتُ أراودها. 

لكن؛ لماذا أحببناها كلانا؟ ربما لأننا لم نصادف غيرها، وربما لأنها أجمل النساء وأكثرهن حناناً.

ابتلعتُ البيضةَ نصف المسلوقة نصف النيئة، وأجلت وليمة "السردين" إلى وقت آخر. جلست على حافة السرير الضيق، وثقل معدني يجثم فوق صدري. راودتني صورتهما معاً في المظاهرة، كعصافير تجرب أجنحتها، أو كمن يلعب مع الموت ضاحكاً، أو كضجر يقطع على نفسه عهداً جديداً. تخيلتها تركض هاربة فزعة، تنزع القبعة الصوفية تدخل من باب الحديقة العامة لتخرج من الباب الآخر. تخيلت أخي يركض وراءها ليحميها. التفتَ، لم يكن أعرج، بل لم يكن هو، كنت أنا الذي أركض..!

بدا لي وأنا البعيد عنهما المسافة التي فرضها عملي في دبي التي تتحول إلى قطعة من جهنم بدءاً من آذار، بأن الجهات في مدينتي وحجارتها وترابها وأبنيتها وأسوار حدائقها ومقالب نفاياتها هي ذاتها، لا شيء تغير من بائع الحلويات عند الناصية وحتى الساحة العامة سوى الناس الذين توسطوا الشارع، وقطعوا على السيارات حركتها.

مثل بخار متكاثف بدأت ذاكرتي تحشد صوراً من زمن نسيته حالما رتبت حقيبتي وحملت جواز سفري ودعوت نفسي "الغريب البعيد" الذي يكتفي بشراء الهدايا الثمينة وإرسالها.

تذكرتُ الشجرة ذات الأوراق الابرية المدببة لم ننتبه إلى جذورها وهي تضرب عمق أرض حديقتنا، حتى انفجر انبوب المجاري وطفحت الماء الآسنة من كل بلاليع البيت. 

تذكرتُ الدكتور في كليتي الذي حدد مبلغ 20 ألف ليرة مقابل نجاحي بمادته. وتذكرت أخي الذي يواظب على الرسوب ليؤجل تخرجه والتحاقه بالخدمة العسكرية الإلزامية.

تذكرتُ نحيب ناي أبي حين يعزف لأمي ليهدأ وجيب صدرها واختناقها الليلي بالربو. وتذكرت فناجين القهوة المقلوبة ونبوءات جدتي بأن لا أحد يهرب من مصيره بل يحمله معه أينما رحل. 

تذكرتُ المكتبةَ عند الناصية، والغبارَ المتراكم فوق الكتب، وحديثي مع صاحبها العم صالح الذي يحب أن يشكو ضجره وكساد بضاعته. وتذكرت أني حفظت مقاطع كثيرة من أشعار محمود درويش ونسيتها فيما بعد. تذكرتُ المطر الغزير في الشتاء الذي مضى وفيضانات الأزقة وطين الحفر، كانت علياء معي، انحشرنا تحت المظلة، تلامس كتفانا، احتك ساعدي بنهدها بطريقة غير مقصودة ثم بطريقة مقصودة، وصمتنا، إلى أن قطعت صمتنا شتائم زُعرٍ عابرين. 

شعرتُ بالإثارة، وبشوق جارف لها.. شعرت بالقرف.. شعرت بالتعب.. شعرت بالغيرة من أخي، وشعرت بأن الصداع يفتت جمجمتي.

كان الليل قد حل تماماً، وبدأت أصوات زملاء السكن العائدين من أعمالهم والقاطنين في الغرف المجاورة تقطع سيلان ذاكرتي الهادئ، اختنقت بالجدران القريبة، وبملامح وجهي منعكساً في المرآة المعلقة، وبالستارة التي تفصل موقد الغاز بعين واحدة عن سريري. 

"ما الذي يجعل هذا السجن الصغير أفضل من بيتنا هناك؟ "

البيت المحنط الذي أضجرني بضيقه ووحشته وكآبته، استبدلته بسجن اختياري، ووحدة تكبر وتتحول إلى فقاعة تغلفني. 

"لكن؛ على الأقل أنا "الغريب البعيد" وهذه الغرفة ليست بيتي.. أليس كذلك؟!"

قلت لنفسي.

لم أكن أخرج إلا في نهاية الاسبوع، أدخن "النرجيلة" مع اثنين من أصدقائي، نشرب الشاي نتبادل القليل من كلام بلا معنى، فنحن أناس بلا أخبار مهمة ولا تاريخ مشترك نثرثر حولهما. وفي طريقي إلى عملي الذي يبدأ قبل شروق الشمس، أستعيذ بالله من رائحة التعب والعرق التي تفوح من حولي في باص المواصلات العامة، فبالرغم من أني أعمل منذ عامين ويحسدني كل من لم تتح له فرصة سفر وجواز هروب، إلا أنني ما زلت لا أملك أملاً ولا سيارة أتباهى بها أمام علياء.! 

"يجدر بي أن أفعل شيئاً يثير اعجابها."

مددت يدي إلى كأس الماء وحبوب البندول، ابتلعت حبتين. رميت رأسي فوق وسادة محشوة بالشوك، وتركت جسدي يهوي إلى قاع النوم.

"أنا أيضاً لست كاملاً وأهداب علياء أطول من غربتي وأحلامي."

 

 

سوزان خواتمي

قاصّة وكاتبة سورية

 
Whatsapp