قصة وطن


 

 

كان قد استنفذ كل طاقة الصبر في لحظاته الأخيرة، يحاول جاهداً أن يتماسك، ويرسم ابتسامة مطمئنة على وجهه الطاهر، ينظر في عيني ولده الممتلئتين بالأسئلة والحيرة، واللتين لا يمكنهما أن تمنحاه عذراً وحجة للذهاب، وهناك عند النافذة، تقف زوجته الشابة تلقي بنظرها إلى الفراغ القابع خلف الأفق حيث لا رؤية للأشياء، تغالب دموعاً تحبسها في مقلتيها، وتأبى أن تسمح لها أن تتخذ مجراها على صفحة خدها الشاحبة التي تفيض باليقين. 

تساءل الطفل بألم: أبي.. أين ستذهب وتتركنا؟

أجاب الأب بهدوء: سأشتري لك وطناً وأعود.

فتح الطفل حدقتيه بغرابة: أليس هذا وطننا!!؟؟

أجاب الأب: لكننا لم ندفع ثمنه كاملا يا بني..وكي يبقى الوطن لنا.. لابد من الثمن!

حين عاد الوالد من مهمته السرية بعد أيام، كان الحي قد استحال إلى بقايا حطام، والثمن قد سدد كاملا..

2

وفجأة تراءى لي طيفها من بعيد، أغمضت عيني، أهو محض وهم رسمته لي نبضاتي الغريقة في شوقي لها، أم أنها قد أتت حقيقة؟

كان الليل قد أخذ مني كل مأخذ، قلبي واجف قاب قوسين أو أدنى من معين يفيض باليقين بأن الفجر آت لامحالة، وأطرافي المتجمدة كما خروج الروح ساعة غياب الرؤى، أقاوم، علًّ الوقت يأتي بهم، وتكون الرؤية آية النصر القريب.

---

كان الليل يوغل بالصمت، له وحشة تملأ الروح رهبة، وأنا المصلوب على جنح الظلام، أتهيأ للولوج من بوابة الحلم، إلى عالم سرمدي أسمى وأنقى.

---

لا شيء سوى أنفاسي وحشرجة النزع الأخير بين ضلوعي تنبئ باقتراب الموت، تتكاثف الرؤى أمام عيوني المتطلعة إلى بصيص أمل.

---

(عيناها !!) ويتوقف الكون، تكف الأرض عن الدوران، يفتر ثغري المشدود إلى ذاك المعدن البارد عن ابتسامة حانية، أداعب أديم الفراغ، ألتمس وجهاً ينير حلكة الظلام، فيضيء قلبي بالسكينة.

---

يتسلل الموت إلى جسدي، كطفل صغير يداعب خد النعاس، فأغمض عينيًّ لاستقبال كفن جسدي المسجى بالعراء، في آخر انتفاضة لروح تقاوم للخلاص.

---

يوقظني وجهها:

-عدني بأنك ستعود..

- حتما سأعود.. وهل يغيب من كان متصلا بنسغ نبضك!!

- أهو وعد؟؟

- ستكون عيناك مرشدي وترياقي. ولن أموت..

---

أصوات ترتفع، وأزيز الرصاص يملأ المكان ودوي المدافع، السماء أهزوجة الليل، سماؤنا قداس يتوهج بالضياء وعيناي متعبتان.. متعبتان.

مرهقتان حتى النفس الأخير.

---

الأصوات من حولي تملأ المكان:

  • إنه يستعيد وعيه..

  • اصمتوا!!

(يا لصوتها القادم من أعماق الغيم.. يمطرني سحاباً ليخصب قلبي)، أمد يدي:

  • كوني ما شئت.. فقط دعيني ألمس وجهك.. أهذه أنت.؟؟

أستشعر دفء أنفاسها، شفاه تقبل جبيني بتقديس، وهمس كما حور العين:

  • (استيقظ أنت في أحضاني)

---

  • لقد جاؤوا بك من أرض الشرف والكرامة.. قالوا: لقد توقفت فيه كل معالم الحياة..

قلت: قد وعدني بالعودة. وأميري لا يخلف وعداً..

تساءلت في لهفة: هل تحقق النصر؟

  • وكيف لا ينتصر قوم أنت منهم!!؟؟

---

 

فتحت عينيًّ في هدوء، محياها محراب للصلاة وللخشوع:

  • قلبك كان دليلي..

  • هلا تقتربين؟

انحنت عليًّ كغصن أثقله الثمر:

  • كنت معي في كل حين. طيفك رسم لي معالم الطريق..

(أحبك أمي.. فأنت انت الفردوس واليقين)، الله هو الأمان في فوضى هذه الأرض، ثمًّ أمي.

 

افتخار هديب

كاتبة سورية

Whatsapp