قضية إدلب.. هل ستأسلم أوروبا؟


لن تحدد إدلب مصير النظام السوري الذي يعمل على إبادة شعبه فحسب، بل ستحدد أيضًا مستقبل سبل التشاركات الجديدة في العالم وكذا الكتل الدولية. لقد كتبت في العديد من المرات أن هذه القضية لا تتوقف عند حدود مجرّد صراعٍ بين النظام والمعارضة، أو مسألة تخص أمن الحدود التركية فحسب. استفتحت مقالي الأسبوع الماضي بعنوان "مسألة إدلب هي نهاية الطريق"، وذكرت أنه في حال كان هناك سياسة عالمية ستشكف عن موقفها إزاء هذه القضية، فستكون بمثابة اختبار للنظام الدولي. بل وذكرت أن مسألة إدلب ستحدد مصير العلاقات التركية-الروسية، مشيرًا إلى قمة 5 مارس الرباعية التي لم تعد مطروحة الآن. لكن يبدو أن النظام الدولي قد انسحب من هذا الاختبار، وترك الباب مفتوحًا.

لننظر إلى النقطة الحالية مرة أخرى:

إن عدد الضحايا الذين سقطوا جراء هجمات النظام السوري والميليشيات المدعومة إيرانيًّا، خلال الأونة الأخيرة في إدلب لا يزال مجهولًا. وبالمقابل تحولت أنظار الملايين من المدنيين هناك وغالبيتهم من النساء والأطفال والعجائز نحو تركيا كما هو الحال في كل مرة. ومن الواضح للغاية أن هذا الوضع لن يلقي بتبعاته على تركيا فحسب بل على أوروبا أيضًا. وإن أوروبا التي قد بدأت بالفعل برؤية اللاجئين يتدفقون نحو حدودها اليوم، تبدو حائرة في الغد. وإن الاتحاد الأوروبي في حال لم يتدارك بما يسمى أمنه الاستراتيجي وحدوده فإنه بانتظار موجات لجوء أقوى لن يقدر على صدّها. هذا لن يؤثر على استرخاء أوروبا فحسب، بل سيحدد الشكل الديمغرافي المستقبلي في أوروبا. بمعنى آخر؛ الأطروحات التي قدمها المستشرق الشهير برنارد لويس آخر حياته، في طريقها نحو التحقق. حيث كان لويس يحذر أوروبا حينما كان يتحدث عن أسلمة أوروبا مع انهاء القرن الجاري.

يبدو أن ما تحدث عنه برنارد لويس قد بدأت مرحلة من إدلب. كانت أوروبا في مواجهة مع موجة هجرة يمكن أن تغير ديموغرافية أوروبا وثقافتها بل وحتى دينها. هذا الهاجس الذي لا يفارق العقل الأوروبي، ربما بات يؤثر على آلية اتخاذ القرار التي تبدو مرهقة للغاية، لكن لا فائدة من هذا الخوف أو تلك الهواجس. إن الفئة الأكثر إحباطًا في العالم الإسلامي الذي تحتقره أوروبا وتستخف به، ستعيد تشكيل أوروبا من جديد. وإن أكثر أحد سيدعم هذا التحول، هم أتراك المهجر المسلمون.

لقد حان الوقت لدفع الثمن، من قبل أولئك الذين يستعمرون العالم الإسلامي عبر عملائهم في الداخل، ويستعبدون شعوبه، بعد أن حولوا جغرافيته إلى منطقة لا تصلح للعيش. لا ينبغي أن نعتبر الحرب الدائرة في سوريا فقط، هي المسؤولة عن تهجير 4 ملايين سوري إلى تركيا، وتشريد الملايين داخل وطنهم، وخلق موجات هجرة جديدة تحدث الآن؛ بل إضافة لذلك هناك النظام الدولي مسؤول عما يحصل أيضًا، ورقابة الردع الدولية، ونفاق المجتمع الدولي أيضًا.

إن قضية إدلب ستضع الاتفاقات القديمة تحت المساءلة، بعضها سيكون بحكم الملغي، والبعض الآخر سيتم توجيهه من جديد. من جانب آخر يبدو أن الخوف وليس رباطة الجأش هو سيد الموقف في ردة الفعل الأمريكية والأوروبية والناتو امام ما يحدث. إنهم قلقون بسبب العقبات الجديدة التي يمكن أن تقف امامهم. إنهم يسعون وراء تحطيم العلاقات التركية-الروسية التي تعتبر من أهم العلاقات التي دخلت على طريق ما بعد تفكيك الاتحاد السوفيتيي. إلا أن المرحلة قد بدأت، على أوروبا التي تستحقر المهاجرين المسلمين أن تنظر ماذا ستتخذ من تدابير أمنية مع أوروبا والناتو للحيلولة دون ذلك.

على صعيد آخر، ستبقى قنوات الاتصال ما بين تركيا وروسيا مفتوحة، لكن لم يعد من الممكن الاعتماد على هذه القنوات بشكل مطلق. حيث روسيا التي بدأت بالتصرف وفق احتياجات التعاون الإقليمي المفتوح، تتصرف الآن وفق سياسة الوجهين. ومن المرجح أن يكون سبب ذلك هو تفكيرها بالموقف التركي، الذي من الممكن أن يظهر انعكاسًا مضادًا إثر التقارب الحالي ما بين تركيا وحلف الناتو او بمعنى آخر بينها وبين الولايات المتحدة، بعد أن هذا التقارب مفقودًا إلى حد بعيد. إن القلق الروسي ينبع من هذه النقطة، وعلى روسيا مضطرة أن تواجه هذه الحقيقة.

التاريخ الحديث الذي حدد معالم القرن العشرين، مليء بالأمثلة على تبدّل الصفوف.

حينما قامت فرنسا باحتلال مصر، قامت كل من إنجلترا وروسيا بالاتفاق مع الدولة العثمانية، من أجل إبعاد فرنسا عن البحر المتوسط، وليس بعيدًا عن ذلك التعاون التركي-الروسي الذي أدى إلى طرد الإنجليز تزامنًا مع تأسيس الجمهورية. أما ما بين عامي 1801 و1806، فإن التقارب العثماني-الروسي الذي كان يظنّ الجميع أنه لن يتدمر، وجدناه قد انتهى مع دعم الروس لتمرد الصربيين في ذلك الوقت، لتبدأ الحرب بين الطرفين من جديد. وقبل فترة قصيرة من ذلك، كانت فرنسا التي احتلت أراضٍ عثمانية تبحث عن أي فرصة لتقديم عرض الصداقة على تركي، وكان ذلك التطور بمثابة إزعاج صريح للإنجليز حليف العثمانيين، وبالتالي سيدفعهم نحو التقارب مع الروس. وصولًا إلى استعراضهم البحري في جنق قلعة وتهديد إسطنبول لينبث عن ذلك انهيار الاتفاق مع الفرنسيين إلى وقت طويل.

هذه الأمثلة التاريخية المختصرة، تشير إلى أن العلاقات الدولية تعتمد على المنفعة بالدرجة الأولى، وعلى خيط رقيق من القطن.

 
Whatsapp