تعيد حالة الطوارئ التي أعلنتها كثرة من الدول لمواجهة فيروس كورونا القاتل، الذي يضرب أركان المعمورة، إلى ذاكرة السوريين (حالة الطوارئ) وما رافقها من فرض للأحكام العرفية، عاشوا في ظلها نصف قرن من الزمان تقريبًا.
بموجب إعلان حالة الطوارئ، سيئة الذكر، الذي صدر منذ اليوم الأول للانقلاب العسكري الذي أوصل البعث إلى السلطة صباح 8 آذار/ مارس 1963، والذي سلب السوريين كافة حرياتهم العامة، وجردهم من حقوقهم كمواطنين وآدميين، وانتزع منهم كرامتهم الإنسانية، وبموجبه نفي مئات الآلاف منهم، وتشردوا، وعذبوا، وحوكموا بتهم مضحكة مبكية ابتكرتها مخيلتهم الإجرامية من نوع: "إضعاف الشعور القومي"، و"وهن نفسية الأمة" لتكون سورية وشعبها رهينة خلال أطول حالات الطوارئ في العالم بأسره، وحرمتهم الفرح إلا بإذن مسبق من سلطة أمنية عليا مختصة، والتفكير، مجرد التفكير، إلا بقرار من سلطة جائرة، وحصولهم على فرصة عمل جد عادية إلا بهبة ومنحة من جهة أمنية، تتحكم بهم، وبمصيرهم في دولة الحزب الواحد .
الجائحة التي تهدد العالم، اليوم، وتنذر بعواقب كارثية اقتصادية وسياسية وبشرية، وفرضت على الناس الحد من حركتهم، وقيدت حرياتهم العامة، والخاصة، هي الحالة نفسها التي تطبع السوريون معها لما يقرب من خمسين سنة، وتكيف معها الملايين منهم، فقط لديمومة سلطة هي وحدها المخولة بإعطائهم جرعات الحياة، وأمصال البقاء على هذه الأرض.
هذا العام تصادف الذكرى المشؤومة مع حالة "الطوارئ الدولية"، التي يعيشها المليارات من البشر، ما يخفف من حزن السوريين، واسترجاعهم لتراجيديا حياتهم التي جعلتهم ينتفضون ويثورون، بعد طول صبر ومعاناة، على بعد أيام من الذكرى الملعونة (إعلان الأحكام العرفية بموجب قانون الطوارئ) التي شكلت بؤرة وباء فتك بالسوريين عقودًا عديدة، في حالة يتماهى فيها اليوم، أكثر النظم ديمقراطية مع تلك الأشد استبدادًا وطغيانًا، مع فوارق المقاصد والغايات.
ونحن في ذكرى ثورة الكرامة المجيدة ( 2011 )، وفي حديثنا عما أصابنا منذ إعلان الأحكام العرفية، وحال العالم اليوم، لابد أن نلحظ بكثير من الانتباه والفطنة أن أول جمعة لانطلاقة الثورة المباركة كانت باسم جمعة الكرامة (18_ 03_ 2011)، لتليها جمعة العزة (25_ 03_ 2011) ما يشير بوضوح وجلاء إلى ما افتقده الشعب السوري، في ظل نظام تباهى بشعارات تحسين أحوالهم ورفاهيتهم، وزعم تحقيق العدالة الاجتماعية بينهم، الشعب الذي لم يعد قادرًا على تحمل الذل والهوان الذي سامهم إياهما نظام كان في سلوكه وممارسته استثناءً قاتلاً، أشد خطورة على حياتهم من الفيروس المكتشف حديثًا.
في هذه الأجواء العالمية، المضطربة، يعلن نظام الطغيان الكوني منع التجول، في المناطق الخاضعة لسيطرته، من السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً، وهي حالة عاشها السوريون في العديد من المدن والمناطق مرات عديدة، ولفترات طويلة، في زمن الأب والابن، ولكن ليس حرصًا على صحتهم، وأمن حياتهم، بقدر ماهي لفرض سلطة وإرادة عصابة غاشمة، على شعب حاول مرارًا التمرد والانتفاض والثورة، وها هو يستغل ظروف الوباء ليجدد فرض الاجراءات الاستثنائية، لأنه يرى فيها فرصة جديدة ليزيد إحكام سيطرته على مجتمع ما يزال على إصراره وثباته في تمرده وثورته التي دخلت عامها العاشر، بذات الإيمان والتصميم والقناعة، لدى قطاع واسع من جمهورها والمؤمنين بها، رغم كل المحاولات الإجرامية لإجهاضها من قوى دولية وإقليمية، حولت بلدهم إلى وطن مغتصب متعدد الاحتلالات.
لقد كشف تفشي الوباء العالمي نقاط خلل وقصور شديدين في النظام العالمي السائد، ما يؤكد أن العالم ما بعد هذه الأزمة لن يكون كما كان قبلها، ومن أولى القضايا الملموسة والمحسوسة اليوم وحدة هذا الكوكب في مصيره، وضرورة مواجهة أزماته، ومشاكله، بتكاتف وتضامن دوليين، على أساس من احترام الإنسان، وحقوقه، التي صاغتها البشرية بعد مراحل، وحقب تاريخية، طويلة، من الحروب والصراعات الدموية. وهو ما يعتقد أنه سيولد قيمًا ومفاهيم عالمية ستكون بالمرصاد لنظم تهدد البشرية، في أوبئتها وأمراضها، وأخطرها على الشعوب الاستبداد والطغيان.
خمسون سنة قاحلة تحت مقصلة (حالة الطوارئ) المستمرة وازدادوا تسعًا، هي الأسوأ في تاريخ شعوب العالم الحديث، الذي يعاني اليوم من هذا الوباء القاتل المكتشف حديثًا، والذي يؤمل منه ويتوقع أن يكون، بعد مرور هذه الأزمة، أكثر وعيًا والتزامًا بقضايا وحقوق الانسان وآدميته، بصرف النظر عن أي مصدر جاء تهديدها والاعتداء عليها.
عبدالرحيم خليفة
كاتب وباحث سوري