عواد.
كنّا نعيش في حقل ألغام تحرسه الضباع وبهذا كنت أختلف عن صديقي الذي كان يشبّه حياتنا بحياة الأسماك داخل حوض مغلق حيث الأسماك الكبيرة منّا تلتهم الصغيرة بسعادة، وفي كل يوم تختفي أسماك يسحبونها إلى خارج الحوض وتنتهي.
لا أحد يعرف أين ذهب الذين اختفوا قبل عقود فقد كنّا نسمع فقط هذه الكلمة التي يعرفها كل سوري ويخافها وهي كلمة: / أخدوووووه /.
- إيمتى؟
- مبارح بالليل.
لكنني كنت أرى الضباع يلتهمونه خلف السور وأُدير وجهي نحو الذين عادوا لحياتهم الطبيعية وقالوا بعد سنوات هذه الحكمة العظيمة:
/ كنّا عايشين وكان عنا أمان /.
كنا نتربع على رأس قائمة الدول الأكثر سعادة وكانت الدولة تملأ عنّا الأوراق المتعلقة بأمر الوطن، وتمنحنا البطاقات التموينية لنحصل على السكر والشاي، وحين نكبر يأخذوننا لخدمة الوطن في الجبهات، فنرى الطائرات والمنشآت والصواريخ والعتاد والشاحنات المعطّلة و"الدوسير" والعقوبات وحلاق الثكنة والمهاجع والرتب العسكرية والضباط وسيارات المرافقة والخطابات المرعبة وشاشات الرادار والمقسم الرباعي وزوجة العميد التي كانت تشرب المتة في حديقة المزرعة وتراقب جوع غرائزنا.
كنا نرى السجن والبطانيات والحراس الذين يشربون الشاي مع السكر على نفقة الدولة دون إشهار البطاقات التموينية، وكنا نرى كل ما تحتاجه أية أرض لتصير جبهة لكننا لم نر العدو.
عواد نفذ صبره من تحريك العصا في الرمل ومراقبة السماء ليقول لي:
- ابو جاسم من زمان ما سمعت صوت صقر.
انا شخصياً لا أعرف صوت الصقر. كلُّ ما أعرفه من أصوات الطيور كان صوت العصافير والبومة والديك، ثم علمت بعدها أن الديك لا يطير، لكن عواد كان يميّز كل تلك الأصوات، ولهذا كان يرى ما لم أره أنا رغم أنّي أعيشه، فحين رفع يده في درس التوجيه العسكري ووجّه سؤاله للعقيد سليمان:
- سيدي ... (شنو دين دولتنا، هسا احنا دولة مسلمة أو يهودية).
/ العقيد سليمان يقترب منه /
إحنا دولة مسلمة يا عواد ما تشوف كل عيد سيادة الرئيس يصلي على الهواء.
طيب سيدي ليش ممنوع الصلاة في الجيش واللي يصلي يروح السجن.
لأنو نحنا جايين نحارب مو نصلي.
بس سيدي ما بي حرب، إحنا جايين نأكل ضرب من الإسرائيلي ونمشي والله عيب علينا سيدي سنتين ما ضربنا رصاصة وهمّا كل يومين يقصفون الثكنة بالصواريخ للصبح ولمّا يخلصون توصل لجنة التحقيق العسكرية ويأخدون صور ويشربون قهوة ويوثقون، سيدي (لخاطر الله إش يوثقون) دمرتنا إسرائيل وهما يوثقون وما يخلوننا نشكي ربنا بصلاة.
كان العقيد سليمان يشير بأصابعه نحو سجن الثكنة حين رافقت عواد إلى المكان الذي يستريح فيه لأنه دائماً يقول لي:
أبو جاسم بالسجن بس ارتاح لأني كلمة سجين تبرر لروحك كل العجز اللي بداخلك.. سجين ما بيدي أحرك شي.
أوصلتُ عواد إلى سجنه وعدت إلى سجني لأنتظر ستة عشر يوماً إلى أن يتم إخلاء سبيله وتعود الحياة إلى المهجع الخامس.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري