"وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ". ماذا ستعني هذه الكلمات لطفلة أكثر من أنها كلمات الرحمن نقرأها لنتعبد ونسمعها لنسكن؟. لكنها وبعد تلك الحادثة شغلت تفكيري لزمن طويل فأخذت أتساءل ماذا تعني ؟! ولماذا أمي تكررها حين تروي القصة وتنهمر دموعها وهي تقول:
" لدقائق فقط عرفت كيف يكون الفؤاد فارغا. شعرت بشعور أم موسى وأحسست بإحساسها العزيز الوصف الصعب التخيل".
كان الوالد رحمه الله أستاذا معارا في المملكة أرض الحرمين الشريفين وكان تقبله الله رجلا عصاميا فريدا في نهجه وأسلوب حياته، وقد حرص تقبل الله منه أن يحج في كل عام هو فيه مقيم هناك، وقد اصطحبنا جميعا في أحد الأعوام وكانت المرة الأولى لي وأنا الطفلة ابنة ثماني السنوات ذات الحساسية المفرطة والملاحظة الدقيقة والعين المتفحصة، فلكم أن تتخيلوا كم الانبهار والذهول والدهشة الذي تملكني في تلك الرحلة، وكان طبيعيا أن يطول شرودي وأنا أراقب تلك الأفواج الهائلة المتدافعة أمام الحرم المكي الشريف، وأستغرق في مراقبتها فينصرف ذهني عن متابعة الأهل الذين غادروا المكان بعد وقفة استراحة غير منتبهين لبقائي واقفة مأخوذة بكليتي بمراقبة فوج من الحجاج ومتابعة حوارهم العذب وروحهم اللطيفة، ظللت لأقل من عشر دقائق كانت كافية ليشعر الأهل أني لست معهم في المجموعة المؤلفة من ثماني أشخاص، وقف الركب منتظرا وعاد الوالد للبحث عني وحين التقت عيناي بعينيه كنت لما أشعر بغيابهم إلا من لحظات، لحظات فقط ملأت نفسي بالذعر ودفعتني لأحضان الوالد مغرورقة العينين بالدموع.
لا أستطيع أن أصف نظرة أم الهيثم رحمها الله حين رأتني متعلقة بيد أبي، أكاد أجزم أنها رغبت في إعادتي لأحشائها مرة أخرى هذا ما قاله لي عناقها الشديد حين كانت تضمني ثم تبعدني عن صدرها للحظات تتأملني ثم تعود للعناق.
كل هذا الشعور وهذه الإحساسات عرفتها وخبرتها يا أماه.
هذا الذي عشتِه لدقائق عشته أنا لستة أيام ..، نعم يا أماه لقد فرغ قلبي كفراغ قلبك على ابنة تائهة لكنه فرغ على ابنين سحبا بوحشية من بين يدي وغيبهما حقد جبابرة لئام..، فرغ تماما حين خابت صيحات الاستعطاف والاسترحام ومحاولات الرجاء والتوسل من أم تدرك تماما أن الذاهب معهم مفقود..، لقد فرغ فؤاد أم موسى وهي تأمل له النجاة، وفرغ فؤادك يا أماه وأنت ترجين اللقاء، وفرغ فؤادي وأنا أوقن وأدرك هول المصير واستحالة التأثير وإجرامهم الخطير.
أي لطف ورأفة وعطف ورحمة توليتني بها يا الله فأكرمتني بعودتهما سالمين !!
أي فضل أكرمتهما به فأنجيتهما من براثن وحوش كاسرة..، أي قوة شددت بها عضدهما فأنجيتهما بأعجوبة أفقدت جلاديهما الصواب فاستشاطوا غضبا وانفلتوا خلفهما مسعورين بكلابهم.. حقيقة لا مجازا !!
ولو أني بقيت ساجدة ما تبقى لي من عمر ما وفَّيتُكَ الفضل يا الله.
لكن الريح حملتهم عني بعيدا وسلامتهم أجبرتني على تسليمهم للفراق.. ويستمر البعد سنوات وسنوات.
ثم ماذا..؟
يأتي بهم آب اللاهب زيارة على جناح الرباب فيحيلون حرَّه بردا وسلاما، ويضوِّعون العطر زهرا وأكماما
حين مروا..
حين مرُّوا على الفؤادِ غماما
لملموا الشوقَ .. طيَّرُوه يماما
حين صبُّوا الربابَ في الكأسِ صرفا
رَويَ الصيفُ بالهطولِ وهاما
حين دقُّوا على الشِّغافِ استدارتْ
أدْهُرُ الحربِ واستحالتْ سلاما
ثم ماذا.. ؟! ذاك أيلول ولَّى
موجع الشجْوِ لا يطيقُ ابتساما
وبكى الوقتُ حين تشرينُ أرسى
عند بابي وأصبحَ اليومُ عاما
ثم ماذا..؟! أترى كان طيفا
أوهمَ الغرسَ بالبروقِ وغاما
كيف أنسى ذلك الحينِ إني
كلُّ حينٍ أقصُّ ذاك الخزامى
يا عبوراً كما السهامِ تخطَّى
مهجةَ القلبِ أفتديكَ مُقاما
ليتَ أنِّي على احتمالكَ أبقى
كدتُ والله أن أذوبَ سَقَاما.
أروى العمر كناوي
شاعرة سورية