لا أصدقاء للملك


 

 

السلطة المطلقة لا تقبل التجزئة والتداول والتوقيت، لا شراكة في المُلك ولا صداقة بين الحاكم المتصرِّف وبين المحكوم المتصَرَّف به. في فيلم "الملك" يقول "هنري" الخامس الشابّ لـ "جون فوستاف":

  • جئت إليك لأنك صديقي. 

فيجيبه ساخراً نديمُه "المسنّ" المخلص ورفيق أيّام العبث الماضية: 

  • ليس للمك أصدقاء. للمك أتباع وأعداء فقط.

القهر هو جوهر العلاقة بين السيّد والعبد فالتملك غَصبٌ وسلب، وانتزاعٌ بالقوّة العارية ينشئ الحقّ المفترض للغالب على المغلوب. لا مناص من الحرب إذاً لتبوّء العروش، ولتذهب إلى الجحيم كلّ أسباب السلام والوفرة والأمن. 

في الحرب يندثر الحبّ وتختفي الطمأنينة والسكينة من صدور المتعطشين للتيجان المغمّسة بالدم، تسود المخاوف ويسيطر الفزع على الأطراف المتحاربة من ذات المصائر التي يمكن أن تفضي إليها نتائج الاحتراب ومآلاته. 

في الصراع على المُلك يغدو مباحاً كلّ شيءٍ الدناءةُ والغدرُ والخديعة والخيانة.. وكذلك القتل. سوف يغادر الغرماء المتنافسون في سبيل السيادة على ما حولهم طبيعتهم الإنسانيّة وحقيقتهم المؤسسة على يقين الضعف، والمبنيّة على الهشاشة.

تقتضي الضرورة في مسرح العبث تحوّلاً وتنافراً في الرؤيا والنظر والتفكير، وأيضاً في المشاعر والأحاسيس لدى المتقاتلين. لا عجب فلا يمكن لمتماثلين أن يسيطر أحدهما على الآخر وأن يتملّكه. ولا بدّ من سلوك سبيل الفناء والإفناء كي نتخلى عن مواقعنا الطبيعيّة كبشرٍ، ولا بدّ من الفرز القاطع بين منتصرٍ أوحد أحمق وخاسرين كثر لا يقلّون عنه حماقة بطبيعة الحال.

سينقلب المحارب المنتصر إلى مخلوقٍ ما فوق إنسانيّ، لقد غدا المالك، وسيتأبّد فيه وفي ورثته المُلك، أمّا الخاسر فسيتحوّل إلى مملوك، موالٍ، تابع، شيء ما دون إنسانيّ من جملة المتاع، وسيتأبّد العبد فيه وفي نسله إلى يوم يثور.

الملك مشيئة والمملوك شيء.

ليس للمتاع أن يفكّر أو أن يرى أو يقرّر، وليس له أن يحبّ أو يشعر أو أن ينال من المتعة ما لا يتجاوز إشباع رغبة غريزيّة، والحصول على مباركة المتصرّف به وبمصيره بما يشبه اللذّة المرضيّة في الانسحاق بين فكّين يقطر منهما اللعاب، والذوبان في الذات المتألهة التي ينبغي أن يعبد.

في قاموس العبوديّة ينتفي وجود الحبّ والكراهية وتختفي مشاعر الرضا والقبول أو السخط والرفض، بل لا وجود للمعنى فيمن يفتقر للروح والعقل والقلب. العبد متاع ولا ذاكرة للمتاع وقد يتغيّر الملك أو يستبدل أو يُنقلب عليه حينها لن تتغيّر صفة المملوك ولن تزيد خصائصه أو تنقص، فلا قدرة لدى العبد على رؤية صورة معبوده ولا على محاولة معرفة حقيقته البائسة. 

إنّ ما يتقنه الشيء هو مجرّد الاستسلام والخضوع لمشيئة المالك الذي تنعقد لديه وحده حرية التصرف بأشيائه استعمالاً وبيعاً وتبديداً، بل وإتلافاً وحرقاً.

قبول الإنسان بالتشييء يفرّط بوجوده كإنسان ويجرّده من الأحاسيس والقيم، ويجعله أداة متوحشة عمياء للفتك بالحياة بيد من تنصّل من إنسانه وتعالى على طبيعته، وتوهًم القوّة والقدرة الزائفين للسيطرة على الكون والاستحواذ على الخلود. 

لا وجود للمعبود بغير وجود العبد.

القوّة يقابلها الضعف والأمور تعرف بنقائضها. لا تكفي رغبة الفرد بالتملك لكي يصبح مالكاً سيحتاج القدرة والآلة والطريق، لا بدّ من الظهور المحنيّة ليتمكّن الراغب من الركوب، ولا بدّ من وجود الرقاب الممدودة والرؤوس المطأطئة ليضع عليها الرسن واللجام من يسعى للوصول إلى امتلاك الرقاب والرؤوس، وفي المثل الشعبيّ المعروف لم يجد فرعون من يصدّه عن أن يكون فرعوناً.

في فيلم الملك وكما يمكن للواقع والحقيقة أن يكونا أشدّ هزليّة وأكثر عجائبيّة من الدراما السينمائية يقرّر جون فاستاف الذهاب إلى ما يرفضه اعتقاداً، وأن يخوض في مستنقع حرب يدرك قذارتها وعبثيتها، وأن يكون مصرعه إحدى دناءاتها وفجائعها المؤلمة. لقد أصرّ على الإخلاص والصداقةٍ، ليس للملك فهو لا يؤمن بوجودها، إنما لهنري ذلك الشاب الذي كان حرّاً وحقيقيّاً قبل أن تختطفه يد الغواية إلى وهم المُلك، وتقوده إلى أن يفقد إنسانه إلى الأبد.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp