في مواجهة كل مستعمر تتشرف الأرض بالأبطال ويتشرف أديمها بالشهداء، وتكتظُّ السجونُ بالأحرار.
وسورية على مدى الدهر تحفل بالأبطال الذين جابهوا الاستبداد بصدورهم، وحاربوا الغزاة والمحتلين ودعوا إلى الاستقلال والتحرر بالرغم من جبروت المستعمر وتنكيله بالأحرار، وقصفه المدن والقرى.
وفي طليعة المناضلين برز الأدباء الذين دعموا الثوار بأقلامهم وراحوا يحثّون الناس على الصمود والتصدي للعدوان الباغي. ولا عجب أن يكون الشعراء أوّلَ المبادرين.
فكان خير الدين الزركلي الذي ولد في بيروت ونشأ في دمشق، وحين دخل الفرنسيون دمشق أصدروا عليه حكماً غيابياً بالإعدام نتيجة مواقفه الوطنية، فلجأ إلى فلسطين ثم إلى مصر واستقر في الحجاز، ولم يتوقف عن نظم الشعر الوطني.
في إحدى قصائده التي تصور وحشية المستعمر الذي هاجم دمشق، يقول:
وفي القصيدة نفسها يصوّر حال الوطنيين الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم سوى القليل:
وقد كشف الشاعر المناضل مكيدة الاستعمار وذرائعه، وفنّد أقوال المستعمرين الذين لا يُقرنون الفعل بالقول، والذين دأبوا على الكيل بمكيالين لتمرير مؤامراتهم ضد الشعب العربي:
في تلك الفترة كانت حلب الشهباء معقلَ الكتلة الوطنية، والمقاوم العنيد للانتداب الفرنسي، وكان الحلبيون يداً واحدةً في وجه الفرنسيين، المسيحي إلى جانب المسلم يدافعون عن الوطن في ركب ابراهيم هنانو وسعد الله الجابري والسرميني وسواهم.
وفي محاولة منها لإخماد الثورة، ألقت السلطة الفرنسية القبض على بعض المجاهدين ونفتهم إلى جزيرة (أرواد)، وكان بين المنفيين الصحفي نجيب الريّس صاحب جريدة (القبس) التي كانت تصدر في دمشق. حتى فُسحة السجين التي يرى فيها الشمس كانوا يضنون بها على المناضلين.
وإمعاناً في مقاومة الطغيان وتحدّيه نظم نجيب الريس قصيدةً رائعة غدت نشيداً وطنيّاً يتغنّى به المجاهدون:
ويتوعّد المستعمر قائلاً :
وفي إحدى معارك دمشق ضد الانتداب، يشير حبيب جاماتي المحرر في مجلة (الهلال) إلى حادثة بطولية جرت في دمشق، في أثناء الثورة السورية الكبرى، خاض غمارها بائع كرابيج حلبي وجماعةٌ من مواطنيه يساعده ابنه (داود) الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، وزوجته التي تساعده في صناعة الحلوى، ينادون عليها: كرابيج صنع الحوريات.. وارد الجنّة.. كرابيج حلب..
وذات يوم خرج الرجال لمواجهة المستعمر، وتوزعوا على وحدات ثائرة وأقاموا المتاريس. ولحق الصبيان بالرجال وابتكروا طريقة طريفة لمواجهة العدو.
كان أبو داود قد أهدى ابنَه طبلاً صغيراً ليلعب به في الحي، وفي ذلك اليوم جمع داود طابوراً من الصبيان يقلّدون العساكر في مشيتهم وقد حملوا العصي والقضبان كالسيوف والبنادق. على رأس تلك الكتيبة الطفولية مشى داود الحلبي إلى القتال وهو يقرع الطبل بعد أن اتفق مع رفاقه أن يلعبوا دور العساكر بصورة جديّة ويشغلوا الفرنسيين عن تحرّك الرجال. وتغيّر النداء: كرابيج حلب ما أحلى منها غير الموت.. ما تخاف ياداوود.. ما تخاف يا عمر، ما تخاف يا جرجي. يومها مُني الفرنسيون بخسائر فادحة وهُزموا أمام الثائرين.
ومن جهة أخرى، وتضامناً مع الثورة السورية أنشد أحمد شوقي رائعتَه التي يقول في مطلعها:
والتي يقول فيها بيتَه المشهور:
وكانت تلك القصيدة تعبّر عن مشاعر المصريين إزاء ما يحدث في سورية.
وإذا كانت أليس بوللو في كتابها (دمشق تحت القنابل) قد ناصرت استقلالَ سورية وصوّرت مشاهدَ البطولة فيها، فإن الأحرار الفرنسيين فعلوا ذلك أيضاً.
وتسابقت الأقلام لمناصرة الثورة السورية والإشادة ببطولات المجاهدين، ومن ذلك ما كتبه إيليّا أبو ماضي عن يوسف العظمة بُعيد استشهاده:
ولم يتوانَ شاعرُنا الحلبي صاحبُ الضاد الشاعر عبد الله يوركي حلاق عن الإشادة بالأبطال والبطولات، وسارع إلى رثاء يوسف العظمة قائلاً:
وتتالت القصائد في هنانو فكتب عمر أبو ريشة:
وتغنى بالثورة وبالبطولة كثيرون.. زكي قنصل.. نعمان حرب .. جورج شدياق وسواهم..
ومن ذلك قصيدة لأبي ريشة يرثي فيها هنانو:
من قصيدة (الجلاء) التي نظمها شفيق جبري، احتفالاً بعيد الجلاء، نقتطف الآتي:
ولقد كان إبراهيم هنانو صُلباً في مقارعة المستعمر، صلداً على الخطوب، وخطيباً مفوهاً تجري على لسانه حكمةُ الحرية وأحلامُ الشعب العربي في سورية وفي غيرها.
ومما قاله إبراهيم هنانو بإعلان الثورة:
من العرب إلى العرب.. ما بالُكم ترضخون صاغرين لحكم المستعمر يتسلط عليكم الفرنسي بنقض عهد وخيانة سوّدت وجه التاريخ ولا سيما تاريخ فرنسا الذي يدّعون مجده، وهو يقول لكم إنه جاء منتدباً لحفظ بلادكم، وصيانة استقلالكم، وما ذلك إلا إفك مبين… وما كان من جريمتكم إلاّ أنكم من أبناء الشرق المسلمين.
ونقول: ما أشبه اليوم بالأمس، تبدّلت الأسماء والجوهر واحد.
وكثيرة هي الأناشيد التي نُظِّمت ولُحّنت تغنياً بالثورة واحتفالاً بالنصر الذي تُوِّج بالجلاء. هناك نشيد سعد الله الجابري الذي نظمه نسيب الرفاعي في حلب:
ونشيد موطني الذي نظمه من فلسطين ابراهيم طوقان – تلحين فلفل إخوان
ونشيد العَلَم حلب محمد الآلا: تلحين صالح محبك
إلى أن يقول:
وعمر أبو ريشة نظم (نشيد الحرس الوطني) ولحنه فليفل إخوان:
هكذا تبدو لنا الثورة الوطنية، وهكذا يبدو الثوار في عيون الأدباء الذين سارعوا إلى تصوير البطولة، وإلى الإشادة بالمناضلين الأحرار الذين ضحّوا بأرواحهم ليتحرر الوطن ويرتفع شأنه، تاركين لنا أمثولات في التضحية والفداء، لن تنهض الأمة العربية مالم تواصل درب الكفاح الطويل بعزم وإيمان لا يستكين.
د. محمد جمال طحّان
باحث وكاتب سوري