أكتب إليكم من إيطاليا، أعني أنني أكتب إليكم من مستقبلكم، نحن الآن حيثما ستكونون في غضون أيام قليلة، فمخططات الجائحة تبين أننا جميعاً متضافرون في رقصة متوازية.
كل ما في الأمر أننا متقدمون عليكم بخطوات قلائل على طريق الزمن، تماماً كما أن (ووهان) الصينية متقدمة علينا ببضعة أسابيع، نشاهدكم إذ تتصرفون مثلما سبق أن تصرفنا تماماً، تتمسكون بالحجج التي تمسكنا بمثلها حتى وقت قريب، منقسمين بين من يقولون (ما هي إلا إنفلونزا عادية ففيم كل هذه الجلبة؟)، ومن فهموا بالفعل.
فيما نشاهدكم من هنا، من مستقبلكم، نعرف أن كثيراً منكم، استشهدوا، وقد قيل لكم الزموا بيوتكم، بمقولات لأورويل (صاحب 1984) وبهوبز (صاحب اللفياثان)، ولكنكم عما قريباً ستنشغلون عن ذلك كله.
بادئ ذي بدء، ستأكلون، وليس ذلك فقط لأن الأكل من الأشياء القليلة التي سيبقى بوسعكم ممارستها، ستجدون عشرات من مجموعات شبكات التواصل الاجتماعي تعلمكم كيف تنفقون أوقات فراغكم فيما هو مثمر، ستنضمون إليها جميعها، ثم تتجاهلونها تماماً بعد أيام قليلة.
ستتناولون أدب نهاية العالم من أرفف مكتباتكم، ولكن سرعان ما ستشعرون أنكم لا ترغبون حقاً في قراءة أياً منها.
ستأكلون من جديد، لن يطيب لكم النوم، ستسألون أنفسكم عما يجري للديمقراطية،
ستعيشون على الإنترنت، حياة اجتماعية لا تتوقف ـ على الماسنجر، والواتساب، وسكايب، وزوم، ستشتاقون إلى أبنائكم الكبار كما لم تشتاقوا إليهم من قبل، وإدراككم أنكم قد لا ترونهم مرة أخرى سيكون أشد عليكم من لكمة في الصدر.
ستبدو المشاحنات والعداوات القديمة تافهة، ستتصلون بمن سبق وأقسمتم ألا تكلموهم ما حييتم لتسألوهم: ما الأخبار؟، وكثير من النساء سيتعرضن للضرب في بيوتهن.
ستفكرون ماذا يجري لمن لا يستطيعون البقاء في البيوت لأنهم بلا بيوت، ستشعرون بالخوف وأنتم خارجون للتسوق في الشوارع المهجورة، خاصة لو أنكم نساء، ستسألون أنفسكم أهكذا تنهار المجتمعات، أبهذه السرعة؟، ستقطعون الطريق على هذه الأفكار وحينما ترجعون إلى البيوت ستأكلون من جديد.
ستزدادون وزناً، وستبحثون عن تدريبات للياقة البدنية على الإنترنت، ستضحكون، ستضحكون كثيراً، ستستعرضون قدرات كوميدية سوداء لم تعرفوها في أنفسكم من قبل، حتى الذين عرفتموهم دائماً جادين في كل كبيرة وصغيرة سوف يتأملون عبثية الحياة، والكون، وكل شيء.
ستضربون لأصدقائكم وأحبابكم مواعيداً في طوابير السوق، لكي تروهم رأي العين ولو في لقاءات سريعة، منصاعين تمام الانصياع لقواعد التباعد الاجتماعي، ستحصون كل الأشياء التي لستم بحاجة إليها، سوف تنكشف لكم طبائع المحيطين بكم جميعاً في وضوح ليس مثله وضوح فتتأكد قناعات وتكون مفاجآت.
المثقفون الذين لم تكن تخلو الأخبار منهم سيختفون، وتفقد آراؤهم بغتة أي قيمة، بعضهم سيلوذ بمنطق سيأتي مفتقراً تماماً إلى الإحساس بالناس فيتوقف الناس عن الإنصات إليهم، والذين كنتم تتجاهلونهم هم الذين سيتبين أنهم يبثون الطمأنينة والسماحة وأنهم أهل للثقة، وعمليون، وقادرون على قراءة المستقبل.
الذين يدعونكم إلى رؤية كل هذه الفوضى باعتبارها فرصة لأن يجدد الكوكب نفسه سيساعدونكم على وضع الأمور في سياق أكبر، ولكن هؤلاء أيضاً سوف تجدونهم مزعجين أشد الإزعاج: لطيف جداً، الكوكب الآن يتنفس على نحو أفضل بسبب تناقص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لكن كيف ستدفع فواتيرك الشهر القادم؟
لن تفهم هل حضورك ميلاد عالم جديد أمر يغلب جلاله بؤسه أم العكس.
ستشغلون الموسيقى في شبابيكم وأفنية بيوتكم، لقد قلتم حينما رأيتمونا نغني الأوبرا في الشرفات (آه طبعاً، هؤلاء إيطاليون)، لكننا نعلم أنكم سوف تغنون مثلنا لبعضكم بعضاً أغنيات ترفع من أرواحكم المعنوية، ونحن حينما نسمعكم تهدرون بأغنية (سوف أتجاوزك) سنطرق متفهمين تماماً مثل أهل (ووهان) الذين غنوا في شبابيكهم في فبراير ثم أطرقوا متفهمين وهم يشاهدوننا.
كثيرون منكم سوف يغلبهم النوم وهم يتعهدون بأن يكون أول ما يفعلونه بعد انتهاء فترة الحظر هو البدء في إجراءات الطلاق، أطفال كثيرون سيتكونون في أرحام النساء، سيدرس أبناؤكم عبر الإنترنت، سيتسببون لكم في إزعاج لا يطاق، وسيكونون بهجة لكم.
كبار السن سوف يعصونكم عصيان مراهقين مشاكسين: سيكون عليكم أن تحاربوا لكي تمنعوهم من الخروج والتقاط العدوى والموت، ستحاولون ألا تفكروا في اجتماع الموت والوحدة داخل وحدات العناية المركزة، ستريدون أن تنثروا بتلات الورد على عتبات جميع العاملين في المجال الطبي، سيقال لكم إن المجتمع متحد على جهد جماعي، وإنكم جميعاً في قارب واحد، سيكون هذا صدقاً، ستغير هذه التجربة إلى الأبد من نظر أحدكم إلى نفسه بوصفه جزءاً منفرداً من كل أكبر.
غير أن الطبقة سوف تمثل فارقاً، فالحظر في بيت ذي حديقة جميلة ليس كالحظر في مشروع إسكاني مكدس بالسكان، والقدرة على أن تواصل العمل من البيت ليست كأن ترى بعينيك وظيفتك وهي تختفي، ذلك القارب الذي ستبحرون فيه للانتصار على الوباء لن يبدو الشي نفسه للجميع، وهو فعلا ليس الشيء نفسه للجميع، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام.
عند مرحلة معينة، ستدركون أن الأمر صعب، ستشعرون بالخوف، ستكشفون عن خوفكم للأعزاء عندكم، أو ستكتمونه في أنفسكم لكيلا تثقلوا عليهم به أيضاً، ستأكلون من جديد.
نحن في إيطاليا، وهذا ما نعرفه عن مستقبلكم، وليس هذا إلا تنبؤ بسيط للغاية، فما أضألنا من عرافين.
لو مددنا أبصارنا إلى المستقبل الأبعد، إلى المستقبل المجهول لكم، والمجهول لنا مثلكم، فليس بوسعنا أن نقول إلا هذا: حينما ينتهي هذا كله، لن يكون العالم مثلما عهدناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فرانشيسكا ميلاندري: روائية إيطالية شهيرة تعيش الحظر منذ ثلاثة أسابيع بسبب تفشي كوفيد 19، وقد نشرت رسالتها هذه في جارديان بتاريخ 27 مارس 2020.
فرانشيسكا ميلاندري
روائية إيطالية