أيام كورونا التي نعيشها يجب أن تمنح كل واحد منّا فرصة التفكير بعمق في معنى حياتنا، أن نحاسب أنفسنا على ما فعلناه أو ما توجب علينا فعله ولم نفعله، على ما أضعناه من عدم مساعدتنا للآخرين. نحن أمام مرحلة تفقد فيها جميع ممتلكاتنا معناها الحقيقي، أو بالأحرى تجد معناها الحقيقي.
تذكروا جيدًا قبل بضعة شهور فقط كيف كنا نتحدث حيال السوريين والمهاجرين الذين طرقوا أبوابنا؛ "هل نحن مجبورون على رعايتهم؟ لماذا نتحمل عبأهم بينما أطفالنا جائعون؟ وصلنا لمرحلة لا نستطيع فيها التجول بحرية بسبب السوريين.."، وما شابه من هذا اللغو. في أيام كورونا كم وكيف قد تغير معنى تلك الأسئلة والنقاشات والقسوة التي كنا نبثها. لقد ظهرت الحقيقة بشكل جلي وقتما فقدنا رفاهيتنا وملكنا ومالنا الذي كان غشاوة على عيوننا جعلتنا نعتبره ملكًا خالصًا لنا.
هناك الكثيرون ممن انتقدوا سيد قطب في توصيفه القسوة التي تصدر عن الإنسان الحديث إزاء الله وعباده؛ على أنها "جاهلية"، معتبرين توصيفه نوعًا من الراديكالية. ونتيجة لذلك تم اتهامه بالتكفير، وتعنيف الناس الذين يخالفونه في الرأي والفكر. بيد أن سيد قطب كان ينظر من نافذة الحقيقة، ويشير إلى أن الناس قد يفقدون أنفسهم أحيانًا ويكونون مطية القسوة والاستهتار والغفلة والضلال.
لم يكن يعني التكفير بحد ذاته حينما يتحدث بشكل خاص عن المسلمين من حيث أنه يمكن أن يُصابوا بجاهلية، بل كان يريد من ذلك تنبيه المسلمين الذين يأمنون من الجاهلية على أنفسهم لمجرد أنهم ينتسبون للإسلام. كان يحذر من الوصول لتلك الحالة، التي يشعر فيها المسلون أن إسلامهم مكسب لهم او انتماء عرقي يجعلهم غافلين عن روحه الحقيقية. ما يعني أن اسم "مسلم" لا يمنحكم ضمانًا مطلقًا. بل الإسلام مسؤولية يجب دفعها من خلال اليقظة كل يوم وكل لحظة.
إن الأصل هو أن نحيا متيقظين، لأننا في حالة امتحان دائم في هذه الحياة، ولأن نفس الإنسان مستعدة للانجرار نحو الضلالة والغفلة، ويملك من الطمع والجشع والكبر والغرور ما يساعده على ذلك.
في الحقيقة، لقد كان يونس إمره يقول بلغته الخاصة ما جاء به سيد قطب. "العلم أن تكون عارفًا بالعلم، العلم أن تعرف نفسك، وإن لم تكن تعرفها فعلمك مجرد قراءة فحسب. لا تقل قرأت وعلمت، لا تقل أدّيت الكثير من الطاعة، فلو لم تعرف الحق فجميع ما قدّمت يذهب هباء منثورا". يغوص المرء في جاهليته، بقدر جهله بنفسه. عندما لا يعرف الإنسان نفسه، لا يعرف ربه كذلك.
إن جميع الفلاسفة الكبار في الأصل يصفون ما جانب الصواب والحقيقة التي تعني اكتشافاتهم وما توصلوا له؛ بأنه غفلة أو ضلالة أو جهل. حتى أن المذهب الذي بدأ مع نيتشه وهايدغر والذي يتهم تقليدًا غربيًّا بأكمله على أنه منغمس بالميتافيزيقيا التي تركز على الكلمات؛ يعتبر اليوم هو المذهب الأكثر رواجًا في الغرب من الفلسفات التأويلية-التفسيرية، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة. يقول هايدغر، أن "جميع الفلسفة الغربية قد نسيت وجودها بعد سقراط، وأنها في حالة من الغفلة والضلال لأنها لم تعطه حقه"، لك يكتف بذلك فحسب، بل يقول بأنه لا يريد سماع صوت أحد أيّ أحد ينتسب لتلك الفلسفة. ومع ذلك لم يتهم أحدٌ هايدغر ولا من كان أشد راديكالية منه في هذا الاتجاه؛ مثل غادامير، دريدا، رورتي، غوتاري، دولوز، كابوتو؛ بالتكفير أو حتى التعصب.
طبعًا هذا موضوع منفصل ويحتاج الكثير من الاستفاضة، لكن دعونا الآن في أيام كورونا والجاهلية التي انسقنا لها على مدى حياتنا دون إدراك منا.
علينا ان نتعرف أن هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوسنا جميعًا تقريبًا، جعلتنا ندرك بشكل أكبر القسوة واللامبالاة التي اقترفناها إزاء حياتنا، وأن نعترف بأنها صرنا نستشعر حجم الغرق الذي أوصلتنا له تلك "الجاهلية" التي خلقتها قسوتنا.
ليست كل جاهلية كفرًا وبالتأكيد هذا ما كان يقصده سيد قطب. حيث أن الجاهلية هي أن يعيش الإنسان حياته غير فاطن للآخر، أن يعيش بأطماعه وحرصه وخصومته وكأنه يضمن أن لا يموت.
الجاهلية هي أن يطرق محتاج حول العالم بابك ويطلب منك جزءًا مما تملك، فتصده وتنظر نحو بازدراء وكبر، وتظن أن ما تحوزه هو ملك خالص لك، وأن ما يشغل الناس من هموم لا يعنيك.
الجاهلية، هي أن تكون عبدًا للآخرين من أجل زيادة أموالك التي لو أنفقتها طيلة حياتك فلن تنتهي.
الجاهلية، هي الانحناء والتذلل من أجل منفعة ضئيلة، أمام عبيد مثلك من البشر الذين خلقهم الله.
الجاهلية، هي الاستعلاء على أناس خلقهم الله كما خلقك ولا فرق بينك وبينهم، ومحاولة استعبادهم واستغلالهم.
الجاهلية، هي عدم معرفة او نسيان او بالأحرى تناسي أن موارد هذه الدينا حق يكفي جميع مخلوقات الله.
الجاهلية، هي أن تغفل عن أن ما أنعم الله به من نعم وإمكانيات هو مجال واسع يكفي الجميع، وتحكم على نفسك داخل قفص يجعلك مرهونًا للذلة والتكسب.
لو أردنا تجديد مقولة محمد قطب، لقلنا أنّ جاهلية القرن العشرين والحادي والعشرين: الاعتزاز بالعلوم والتكنولوجيا، التوهم بأنها يمكن أن تضاهي الله، عدم الاكتراث بأن هذا العالم والتكنولوجيا التي صنعها يمكن أن تودي به نحو حتفه. إنتاج كم هائل من الأسلحة والدفاعات باسم مجابهة العدو وضخ أموال طائلة لهذا الغرض، ثم العجز بشكل كامل في مواجهة فيروس صغير ضئيل لا يُرى.
الجاهلية، هي نسيان ما أظهره الله لفرعون على يد موسى، ولنمرود على إبراهيم، ولجميع البشرية على يد عيسى ومحمد.