شيء من الرمضانيّات


    


 

 

 

 

- الگُلّة -

 

ينتابني شعورُ حنين عارم كلّما رأيت موقع (الگلة) التي كانت منتصبة يوماً ما، بمكان ما، بين ساعة الرقة وسوق الأوقاف.

والگلة عبارة عن كتلة ترابيّة فخاريّة ضخمة هائلة كانت تتموضع كبرج للمراقبة، عند طرف سور الرقة الأثريّ الجنوبيّ الغربيّ قبل إزالته.

كانت الگلة ترتفع -في تقديري -لأكثر من ثلاثين متراً، بقطر دائريّ، ربّما يزيد عن ذلك بقليل.

وبما أن الگلة كانت الكتلة الأكثر ارتفاعاً بالمدينة كلّها فقد كانت تُستخدم في شهر رمضان من كل عام كمنصّة لإطلاق مدافع الإفطار والسحور، ومدافع العيدين: الفطر والأضحى كذلك.

ومن ذكرياتها العزيزة أنّنا نحن -ثلّة من صغار الحيّ- كنّا نترقّب بلهفة وشوق اقتراب موعد الإفطار برمضان لنهرع إليها ونسبق عمّو، (هكذا كنّا نخاطب الرجل المكلّف بشؤون المدفع وإطلاقه قذائفه)، بالصعود لأعلى القمّة بانتظار قدومه، وما إن نلمحه قادماً من بعيد، حتّى نتراكض إليه، لنساعده، ونخفّف عنه مشقّة حمله السلّة المتخمة بعدّته المعتادة من ذخيرة وبارود وخرق بالية، وشيء من التمر والماء.

فإذا بدأ الرجل بإفراغ محتويات السلّة استعداداً للعمليّة اليوميّة الروتينيّة، كان لا يتوقّف عن زجرنا، وأمرنا بالابتعاد عنه وعن العدّة، ومكان الإطلاق، ونهينا عن العبث بالسلّة، وتنبيهنا محذّراً من خطر الاقتراب من البارود والصاعق فيها خوفاً منه، وحرصاً علينا.

ويمرّ الوقت بطيئاً لكنْ مشوّقاً ونحن نراقب بشغف عمليّة حشو سبطانة المدفع بالخرق البالية، ممزوجة بمادة بيضاء تشبه البودرة، ومواد أخرى لا نعرفها، قبل ضغطها بقوّة بسيخ معدني صلب.

كان الرجل يعمل بدأب ولا ينسى بين الفينة والأخرى أن يلتفت إلينا وقد (تكوّمنا) عليه كسرب من النحل أو النمل، لنراقب تفاصيل عمله وكأنّنا نراها أو نراه للمرّة الأولى، ليصرخ بنا من جديد للابتعاد عنه وإتاحة الفرصة له لإتمام عمله.

كنّا نراقب حركاته بإعجاب ونتخيّله أبداً كأحد أبطال سينما (فؤاد) الشجعان منتصراّ كالعادة في نهاية الفيلم ...!

وتمرّ اللحظات مسرعة بين ترقّب وفرح، ونحن نحصي على (البطل) حركات يديه وأصابعه بل نصغي بنفس الإعجاب لصوت سعاله الجاف أحياناً.

وعندما تقترب النار من الصاعق كنّا ننحشر بزاوية بعيدة عنه، ونحشر أصابعنا بآذاننا وضربات قلوبنا تزداد سرعةً وخفقاناً، ولا تعرف الهدوء والاستقرار إلا حين يشعل الصاعق لتنطلق بعدها بلحظات القذيفة بالفضاء ويدوّي صوت المدفع معلناً حلول موعد الإفطار مع صوت المؤذّن:

(الله أكبر.. الله أكبر)

لنتقافز بطرب طفولي، ونتدحرج من أعلى الگلة راكضين، مطلقين أرجلنا للريح باتجاه بيوتنا ونحن نصيح مردّدين بما يشبه الحداء:

(طگ الطوب افطر يا صايم)

(طگ الطوب افطر يا صايم)

ونبلغ بيوتنا لاهثين لننهمر على مائدة الإفطار المعدة بنظام وإتقان، انهمار الذئاب الجائعة على فريستها، ولنبدأ بعدها طقوس الإفطار الرمضانية البهيجة التي تمتدّ غالبا حتى طعام السحور.

ونخلد بعدئذ -وقد أخذ منّا التعب كلّ مأخذ- إلى النوم، بانتظار الصباح وعودة الحياة إلى طبيعتها في اليوم التالي، بانتظار مغرب جديد ودويّ مدفع جديد بنفس اللهفة والشوق والترقّب.

كان كل شيء بسيطاً وجميلاً، يتناسب وجمال الحياة وبساطتها، وبراءة الأطفال، ووداعة المدينة.

مازال بعض جيلنا يذكرون (الگلة) في أحاديث العشيّات، ويبدون الامتعاض بل الغضب لإزالتها، وقضمها مع جزء نفيس من سور المدينة الأثريّ الغربيّ، دون حكمة أو تقدير أو إدراك لمعناها أو قيمتها التاريخيّين...!.

 

 

 

     عصام حقي

     شاعر وكاتب سوري

 


 

Whatsapp