يحدث في سورية اليوم


 

 

 

يقول عالم الاجتماع العربي الذي أسس لهذا العلم العالم ابن خلدون :(الدول كالأشخاص لها أعمار فمن اليفاعة إلى الشباب والقوة ثم إلى الكهولة والشيخوخة فالزوال، ومما يقرب زوالها تأسيسها على عصبية أو مذهبية تخبو مع الزمن) وهذا حالنا في سورية، فأهل الحكم يتمثلون مقولة ميكيافيلي الإيطالي التي تقول: (إذا انتصرت عسكريًا فتخلص ممن ساعدوك لأنهم سيطالبون بحصتهم وسيشكلون مشكلة لك). ولكن هل انتصر النظام على الشعب وبدأ زمن المحاصصة داخليًا وخارجيًا؟ فالداعمون كثر خارجيًا وداخليًا وإذا أراد الجميع حصصهم فلن يستطيع الاقتصاد المتهاوي والذي ينخره الفساد تلبية جميع المطالب.

دأب حكم البعث منذ أن استفرد بالحكم في سورية بعد التخلص من شركائه ومناوئيه بعد حركة ٨ آذار/مارس بالترويج لتجربته الخاصة والرائدة وإلى إعادة الحكم لأصحابه من الكادحين والعمال والفلاحين وصغار الكسبة ومع ازدياد الاضطرابات الشعبية هنا وهناك، كان الحرس القومي المسلح بالمرصاد، فقام بمصادرة الأملاك واقتسامها وإغلاق المحلات ومصادرتها ثم أتت التأميمات الواسعة لكل الأنشطة الاقتصادية الصغيرة والكبيرة، تلتها قوانين الإصلاح الزراعي التي صادرت الأراضي وقسمتها بين مستثمريها من الفلاحين وترك أجزاء كبيرة منها كأملاك دولة لتتسرب للمحاسيب وكبار القادة والموظفين، وبهذا استبدل تحالف الإقطاع مع رأس المال برأسمالية الأقارب والأصدقاء، بدل أن تكون بيد الشعب المنتج كما ادعى النظام.

 

 

 

ظهر ذلك جليًا وتجسد بعد ما سمي بالحركة التصحيحية عام ١٩٧٠ الذي كان شعارها القضاء على العقلية المناورة والانفتاح على الشعب وقواه الديمقراطية وتكافؤ الفرص، ليتضح بعد إعلان الدستور أن المقصود هو حزب البعث القائد للدولة والمجتمع وليصبح شعار الحكم من هو معنا سنفتح أمامه كل الأبواب للكسب والتربح ومن يعادينا أو يعارضنا فأمامه إما السجن أو الزوال. ومن يقف على الحياد فهو وشأنه وسيكون مهمشًا منبوذًا. مع هذه المبادئ بدأت رأسمالية الأقارب والتربح من مؤسسات الدولة وثروات الوطن بنهم لا مثيل له، ومع تدفق أموال الخليج بعد حرب تشرين برز رجال الخمسة بالمائة (محمد حيدر رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء) ومن بعده رجل العشرة بالمائة (محمد مخلوف من "الريجة "مؤسسة حصر التبغ والتنباك الى المصرف العقاري واستثمارات البترول) وغيرهم أعداد لا تحصى من المتربحين والفاسدين بشراكات مع تجار ورجال أعمال تحت حماية النظام ودعمه. وبعد توقف الضخ المالي الخارجي اتضح ان الخزينة أصبحت فارغة بتسوية مع رفعت الأسد شفطت ما في البنك المركزي مع دعم قذافي للتسوية بملايين إضافية لتتدهور العملة المحلية مقابل  العملات الخارجية وبعد أن كان الدولار يساوي أربع ليرات أصبح يساوي خمسون ليرة، لتنخفض القوة الشرائية للشعب وتبدأ المعاناة الطويلة التي لم تنته إلى الآن، مع فقدان المواد الأساسية وليصبح التهريب هو من يؤمن حاجة السوق بأسعار خيالية، وبرزت أسماء مهربين كشفيق فياض قائد الفرقة الثالثة وأمثاله، وكان سوق لبنان والمرافئ غير الشرعية بيد الكبار من الأقرباء والمتنفذين، ولتنسحب الدولة من الأنشطة الاقتصادية ولترفع الدعم عن المواد الأساسية وتترك المجال للاقتصاد الموازي الذي تسيطر عليها المافيات.

جاء سقوط الاتحاد السوفيتي لتتغير سياسة النظام من التحالف الإستراتيجي مع الأصدقاء إلى تحالف المصالح، ليصبح ما كان غير شرعي هو الشرعي، ولندخل بقوانين الانفتاح والاستثمار ولتتضح الصورة أكثر وتتراكم الثروات الخرافية لتسيطر على كل منافذ الاقتصاد حتى الزراعة لم تنجو، فنمت إقطاعيات كبار الضباط في الجزيرة وفي أملاك الدولة الكثيرة، لا يتسع المجال هنا لرصد وتفنيد كل مناحي الفساد النهب. يكفي أننا أعطينا صورة عما جرى من ويلات الفساد والنهب، لنصل اليوم إلى ما يحدث الآن من صراعات كانت مؤجلة ولكن متوقعة، فقد برزت قوى جديدة تريد حصتها الآن. بعد توهمها أنها انتصرت عسكريًا وتريد جني المكاسب لتسدد بها فواتير الداعمين الذين لم يتوقعوا أن تطول فترة انتظارهم، ولم يكتفوا بما استحوذوا من نفط وفوسفات ومرافئ وقواعد ومعامل كهرباء وأسمدة مما بقي بعد الدمار الشامل التي ساهمت به هذه الأطراف. فما يدور الآن حلقة من حلقات التردي واللعب بثروات الشعب وقوته، ومن يتصور أن ما يجري تمثيلية فهو مخطئ. ويكون له ارتداداته وعواقبه، الغائب الوحيد عما يجري هو الشعب الرازح تحت فقر وعوز غير مسبوق وهو يرى كيف يتم التلاعب بأمواله وكيف يحرم من أبسط مقومات الحياة ويراها تهرب وتصدر إلى الخارج ليزيد ربح الأثرياء ويزداد فقر الفقراء، إلا أن ذلك لن يستمر فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وإن غدا لناظره قريب.

كل ذلك يحدث اليوم لأن توازنات القوى أوصلت الحرب إلى طريق مسدود ولم يعد أي طرف يحقق منها أكثر مما حقق، بدون انتصار حاسم لأي طرف، وبالتالي لم يعد ممكنًا للروس تحقيق ما سعوا إليه من سيطرة كاملة وفرض الحل على الجميع حسب رؤيتهم ومصالحهم، وبذلك توقفت الاستثمارات غير المجدية والتفتوا إلى تحصيل ما يقدرون عليه.

 سورية أصبحت مزرعة لأهل الحكم وللداعمين، دون النظر إلى مصالح أهل البلد البائسين في ظل هكذا حكم وهكذا حلفاء.

 

 

محمد عمر كرداس

  كاتب سوري

 

Whatsapp