المواطنة السعيدة كانت أمي
.......
يقول غوغل إن الدنماركيين هم أسعد الشعوب، غلط يا غوغل، أمي كانت الأسعد على الإطلاق.
لكن غوغل لا يعرف شيئاً عن أمهاتنا والسبب بسيط جداً فأمهاتنا أيضاً لا يعرفن غوغل.
في السادسة من عمري نجوت من الغرق فأخذتني أمي في أحضانها، وضغطت بكفيها على رأسي وهي تشده نحو صدرها حتى دخلت قلبها، وشعرت بماء دافئ سال على خديّ، فقلت لها:
ما هذا يا أمي ?...
وكان جوابها:
دموع الفرح.
في الثامنة من عمري قالت المعلمة لأمي بأنني أعقل طالب في الصف وبأنني مهذب ومطيع، فضمتني أمي إلى صدرها وشدّت رأسي بقوة فدخلت قلبها مرة أخرى، وشعرت بماء ساخن سال فوق خدي ولمّا سألتها ما هذا يا أمي كان جوابها:
دموع الفرح يا إبني.
وتكرر هذا الفرح كثيراً ففي العاشرة نجوت من رصاصة طائشة أطلقتها دورية أمن كانت تلاحق بائع دخان يسكن حارتنا لأنه هرب منهم حين أرادوا مصادرة بضاعته، فأخذتني أمي إلى قلبها وقالت: دموع الفرح يا إبني.
في الحادية عشر والثانية عشر والخامسة عشر، وفي العشرين وهي تودعني لأسافر إلى الخدمة العسكرية، ثم وفي كل مدة بينما أعود إلى المنزل في إجازة كان المشهد الدافئ وخدي ودموع الفرح يتكرر، وتشدني إلى قلبها وتغسل وجهي بماء المحنة.
وحتى عندما غادرت سوريا عانقتني لربع ساعة في المنزل ولم يكن قلبها يحتمل أن ترافقني إلى المطار، قالت:
لا أستطيع أن أراك وأنت تطير.
وتكرر المشهد خلف الباب مع آخر جرعة من دموع الفرح وكنت كلما أرسل لها رسالة من ألمانيا تقرؤها عليها أختي فتأخذها أمي إلى أحضانها بقوة، وتبلل خدها بماء دافئ يسيل من عينيها ثم تقول لها:
دموع الفرح.
بعد خمسة عشر عاماً التقيت أمي في مطار فرانكفورت وعاد المشهد ذاته بقوة وبدموع أكثر:
إنها دموع الفرح.
أمي هي المواطنة السعيدة بل هي أسعد امرأة في العالم، تفرح كثيراً وترش دموع الفرح حولنا.
قبل شهرين التقيت بأمي فعانقتها بشدة ودفعت برأسي إلى صدرها لكنني لم أصل قلبها لأنها ببساطة لم تضغط بكفيها على رأسي، ولم تكن هناك دموع الفرح.
أمي كانت أسعد مواطنة في العالم لكنها الآن تعيش بلا دموع، لا شيء لتبكي عليه بعد هذا الشتات، لا دموع يا غوغل لا دموع.
لقد تبادلنا الأدوار ففي آخر عناق سال ماء ساخن ولكن من عينيّ أنا على خدها وقبل أن تسأل أجبتها:
إنها دموع الفرح يا أمي.
أنا السعيد ابن المواطنة السعيدة صار عندي فرح للدموع.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري