عندما انهار الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي وجد الغرب نفسه في فراغ سياسي من حيث معنى المقولة الثابتة في السياسة: (إذا لم يكن لديك عدوّ فعليك ان تصنعه)، فكان لا بدَّ من العودة للعدو التاريخي، ونقصد بذلك العدو الذي أشار إليه الباحث المغربي محمد رضوان: (الإسلام العدو الاحتياطي) فكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بداية انطلاق مرحلة جديدة في تاريخ الصراع...
لقد اتخذت العلاقات بين الغرب والإسلام صيغاً وأبعاداً مختلفة، بامتداد قرون التماس والتفاعل بين الكتلتين الحضاريتين، إلا أن الثابت الإبستمولوجي في المقاربة الغربية- حسب ما قال المفكر الكبير محمد عابد الجابري- هو تحديد الأنا عبر الآخر، تصنعه بالصورة التي تجعله قابلاً لأن يقوم بالوظيفة التي تريدها منه.
هذا، وقد بدأ هذا المسار عبر الفكر الكنسي الذي أنتج جملة من المقولات التي تدّعي (بطلان الإسلام كدين سماوي قائم على الوحي الإلهي) وتلصق به تهم الإرهاب، وانصبت الأبحاث حول إعادة إنتاج حالة سياسية وفكرية في الشرق المسلم كالتي سادت في الغرب إبان القرون الوسطى، وكان لابد من وجود أرضية حقيقية في الشرق لجعل المسلم العربي يرفض الإسلام كنظام حكم ومنهج حياة ...
لست من المولعين بنظرية المؤامرة ولا عندي عقدة الضحية، ولكن لابدّ من النظر بعمق لما يجري حولنا وما يرسم لشعوب هذه المنطقة من العالم ويحق لنا السؤال أيضاً، هل كل ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي يحدث بشكل اعتباطي ودون سابق تخطيط ؟!، أو ليس هناك من يدير خيوط اللعبة أم أنها أحداث وسيناريوهات غير مرسومة المعالم بشكل مسبق؟!..
وهنا، لابدّ من العودةِ قليلاً إلى التاريخ لفهم ما يحدث اليوم، وبالتحديد إلى القرون الوسطى في أوروبا، لقد استفاقت أوروبا ذات يوم على واقع أسود وجهل مدقع وسمِّيت تلك الفترة في تاريخها بعصور الظلام (القرون الوسطى) حيث الكنيسة ورجالاتها ومحاكم التفتيش تمسك الحياة بكل مجالاتها في الغرب المتخلف المستبد القابع تحت حكم رجال يعتبرون كل من يخالفهم كافر يجب قتله، وكل من يأتي بجديد مبتدع متآمر مع دول معادية للدين الكنسي، والشعوب عليها فقط العمل بتعاليم الدين كما يراها (رجال الدين) الذين هم بنفس الوقت رجال السياسة والاقتصاد والعلم والفلسفة والحرب والأمن، نعم إنها أوروبا (جهل وفقر وقمع حريات ومحاكم تفتيش)..
لقد عاشتْ أوروبا عصوراً من الظلام وانتشاراً للجهل والخرافات والفقر والاعتقالات والحروب الدموية، حتى أثمرت جهود المفكرين والتنويريين في الدعوة للتخلص من حكم رجال الكنيسة والانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي، وبذهاب رجال الكنيسة كان لابد من وضع الدين المسيحي داخل الكنائس وإغلاق الباب عليه وعدم السماح له بالخروج للحياة مرة أخرى حتى لاتعاد التجربة حيث كلفت مئات الآلاف من الضحايا للتخلص من هذا الظلام..
وفي مطلع القرن السادس عشر (عصر النهضة) أدرك الأنسان الغربي أنه لابدَّ من ثورة على هذا الواقع المتردّي، طبعاً لم تأتي تلك الصحوة من فراغ بل كانت إسهامات المفكرين والمنظِّرين في تلك المرحلة حجر أساس في الحراك الحضاري أمثال (جان جاك روسو و جون لوك وغيرهم الكثير)..
وخلاصة القول إنه لم يتمّ التفريق بين المسيحية وبين الممارسة لها فكانت الدعوة للعلمانية هي السبيل للتخلص من المنظومة الفكرية المسيحية وممارستها بشكل جذري..
وبالقليل من المعاينة لواقعنا اليوم نلحظ محاولة خلق (سيناريو) مشابه تماماً لما حدث في القرون الوسطى وذلك بمحاولة إظهار الدين الإسلامي بمظهر (محاكم التفتيش) وخلق كيانات مطابقة تماماً لتلك الكيانات في اوروبا تلك الفترة، فما يسمى (تنظيم الدولة الاسلامية) و(تنظيم قاعدة الجهاد) وغيرهم يشكّل نسخة طبق الاصل لما تحدثنا عنه آنفاً (رجال يحكمون باسم الدين، وجوه متجهمة وقطع رؤوس لكل مخالفيهم، ملاحقة كل صاحب فكر واعي والتضييق على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، رجال بلحية وعباءة إسلامية، ومحاولة التماهي ذاتها بين النص الديني وآراء رجالاتهم، والعلم فقط هو ماتخطه أقلامهم الظلامية وبقية المعارف هي ضلال، غنى فاحش عند رجالاتهم وفقر وعوز عند غالبية المسلمين)..
ودون سابق إنذار يأتي المخلِّص لهذه الشعوب التي ضاقت عليها الحياة، إنه الرجل ذو اللباس الحضاري والمظهر الأنيق النظيف (عكس رجالات الخلافة تماماً) إنه ممثل الحضارة الغربية بكل حذافيرها، ويجب أن نعلم أن هذا الرجل الحضاري جاءنا من اتجاهين ليخلصنا من ظلام (حكام الشريعة):
الجانب الأول: القوة الناعمة وتتمثل في المنظمات الإنسانية وموظفيها الذين يقدمون للمشردين جزءاً من حاجاتهم دون مقابل وبوجه حسن..
والجانب الثاني: القوة الخشنة وتتمثل في تحالف القوى الغربية الكبرى للقضاء على هذه التنظيمات التي صنعوها ليقضوا عليها..
وبهذا فقد باتت النظرة عند عامة المسلمين كالآتي: (الرجل ذو المظهر الاسلامي) يضمر الشرّ، يريد سلب أموالهم بحجج (شرعية)، وبالمختصر يمثل حياة الظلام والجوع والتخلف وإبعاد المجتمعات عن كل شكل للحضارة، وبالمقابل الرجل الحضاري نظيف الثياب يقدم المال دون مقابل ويستخدم التكنولوجيا العسكرية للقضاء على (حاكمي الشرع) لإظهار القوة، وليظهر أيضاً بمظهر رجل النور والعلم والحضارة والأمان والرخاء..
ونعلم أنه من أصعب المهام أن تحاول إقناع عامة الناس بالفصل بين (النص الإسلامي في ذاته) وبين (الشخوص المتلبسة لهذا النص) حتى لو أظهر لك شخص أنه يتفهم أن (الإسلام كدين) شيء وأن (داعش والقاعدة) شيء آخر، إلا أنه في اللاشعور هناك تماهي بينهما لأن النظرية (النص الديني) وممارساتها لا يمكن الفصل بينهما عند عامة الناس، بل هي صعبة حتى على النخبة الواعية..
لذلك وفي هذه الفترة من ظهور هذه الكيانات بدأنا نسمع في الشارع ما يشبه ما نادت به أوروبا للخلاص من محاكم التفتيش، ونلمح ردة فعل عكسية في المناطق التي حكمتها (داعش) وذلك بالانقلاب على كل ما هو إسلامي
خلاصة القول إن الوعي الجمعي لأي مجتمع لا يمتلك مستوى ثقافي ومعرفي عال يمكن لمؤسسات العالم الغربي التلاعب به وتوجيه مساره الى ما هو مطلوب بالنسبة إليهم..
نعم، هناك مراكز أبحاث ضخمة ومؤسسات إعلام عملاقة ورجال مدربون لمهام كهذه واموال تنفق في سبيل ذلك، وبرغم كل هذا هناك أمر هام للغاية ألا وهو إن النظرية في ذاتها طالما هي تشكل أجوبة وجودية لكل التساؤلات الإنسانية وتعطي البشر حلولاً لجميع مشاكلهم المعاصرة، فهي لن تموت حتى لو كانت الممارسة لهذه النظرية مشوّهة، ويمكن أن تفتر في فترة زمنية ولكن سرعان ما تعود للظهور من جديد مع قدوم أجيال أخرى تبحث عن إجابات لأسئلتهم الوجودية الأبدية (ما هي الحياة؟ ما هو الموت؟ ما هو الخلود؟ ماذا بعد هذه الحياة؟)، وكذلك فالنظرية تعود للواجهة عندما يصادف العالم مشاكل يقف العلم عاجزاً عن إعطاء إجابات لها، ولذلك فالناس يعودون لما يحقق لهم الطمأنينة والراحة النفسية من خلال النصّ الديني، وهو معنى قوله تعالى: (.. واللهُ متمُّ نورِهِ ولو كَرِهَ الكافرون)..
محمد ياسين
كاتب وباحث سوري