رصَاصٌ طائِشٌ




 

      كان والدي يصفني بالطَّائش كثيرًا، وعندما هربتُ من قبيلتي في الرَّقة إلى بيروت، وبلغه أنَّني صِرتُ فدائيًّا ومُدخنًا، تأكَّدَ له وصفُهُ لي، والتصقتْ تلك الصِّفةُ بي، حتى إنَّني عبرت الملعبَ الرياضيَّ في بيروت الغربية راكضًا، فارتطمت كرةٌ طائشةٌ بوجهي، أصبتُ على إثْرِها بنزفٍ عينيٍّ، نتجَ عنهُ ضعفُ نظرٍ وذبابٌ طائرٌ. مع الوقتِ لم أعُدْ أهتمُّ به، بل بكلِّ شيء طائرٍ، بما في ذلك الطيرانُ الإسرائيلي! واعتدتُ المشيَ مُطرقَ الرَّأس، لا أرفع نظري للأعلى مُطلقًا، وأنا أعْبُرُ خطوطَ التَّماسِ بين بيروت الغربية وبيروت الشَّرقية.

   في الحربِ حذَّروني من الرَّصاصِ الطَّائشِ، في الحقيقة لم أستوعِبْ كيفَ يكونُ الرَّصاصُ طائشًا!، لكني بدأتُ أسيرُ محاذيًا الجدار، وأحيانًا أمارسُ هوايتي في جمع الرَّصاصِ “الطَّائش” في شوارعِ الرَّقة، أحاولُ وضْعَهُ في صُندوقٍ، أرتِّبه في صفوفَ منتظمةٍ، لأعيدَهُ لعقله، يتمرَّد عليَّ، فيغافلني عائدًا إلى الأسطحة والشَّوارع، يختار رؤوسَ ضحاياه أو عيونَهم، أطاردُهُ، أعيدُهُ إلى الصُّندوق، يغافلني كَرَّة أخرى، وما زلتُ أتساءل:

  • كيف يكون طائشًا، وهو يصلُ إلى هدفه بدقَّةٍ متناهيةٍ؟ كيف يكونُ طائشًا، وقد وصلَ إلى قلوبِ جيراننا في حارةِ البَصْراوي؟ كانتْ رصاصةً “طائشةً” تلكَ التي اخترقتْ قلبَ حبيبتي!

 مع كلِّ صباحٍ أقفُ على شاهدةِ قبرِ أبي في مقبرةِ تلِّ البَيْعةِ شرقَ المدينةِ لأقولَ له:

  •  أقسمُ لك يا أبي أنَّني عَقِلتُ، ولن أكونَ طائشًا بعد اليوم.

  لا أعلمُ سببًا يجعلُهُ يصدِّقُني، فقد كُنْتُ مُشاكسًا طوالَ عُمُرِي، لا ألتزمُ بوعدٍ ولا كلمةٍ، قلتُ له: سأبتعدُ عن رِفاق السُّوءِ، وكنتُ وسطهم عندما قذفنا بيتَ قائدِ الشُّرطةِ بالحجارةِ وهربنا بسرعةِ البَرْقِ، ووعدتُهُ بالعودةِ للجامعةِ، وقضيتُ فصلًا دراسيًا في المُعْتَقَلِ، وأخبرتُه أنَّني نجحتُ بتقديرٍ عالٍ، اتصلتُ به من بيروتَ، وقلتُ لهُ: 

- الله ما أجمل الصالحيةَ يا والدي هذا الصباح! فهواءُ دمشقَ ينعشُ القلبَ!.

وعندما أوشكتُ على إتمامِ سورةِ الفاتحةِ على قبرِهِ، كان النَّاسُ يركضونَ على غيرِ هدًى، بعضُهُم كانَ يتعثَّرُ بثيابهِ ويسقطُ، اعتبرتُ الثِّيابَ البدويةَ حينَها عائقًا أمامَ الهربِ، وأنَّها قد تكونُ فخًّا تسقطُ فيه في أوَّلِ هزيمةٍ، وبعضهم كان يتمتمُ بآياتٍ يحفظُها، وآخرون كانوا يلوذون بالأمواتِ لحمايتهم!

 جرفني موجُ البشرِ الهاربين، ركضتُ معهم، لا أعرفُ إلى أين، المُهِمُّ عكسَ جهة الرَّصاصِ، الرَّصاص الطَّائش، وظللتُ أقولُ لوالدي:

 

 

  • لمْ أعُدْ طَائشًا، بينما كانَ الدَّم ينبجِسُ من جَسَدي كنَهْرٍ.

د. موسى رحوم عباس

كاتب سوري

 




 

Whatsapp