كورونا مولودٌ مجهريٌّ حديث العهد في مجتمعات "الجراثيم" فهو من المستوطنين الشّرعيين لهذا الزّمن (المكان لم يعد معنيّاً بالنّضال منذ هُجّرت القلوب).
ولقد ظلّت المنشورات من صحائف واعترافات وتصريحات ونظريات ومواثيق وألبسة، ومرثيّات تزوّر القيم وتشتم الجبن وأزياءَه الكثيرة (الخرس وشراء الحناجر والشّره واعتلاء المنابر، الكذب وركوب الأمواج، الضياع في الحشود والانضمام إلى أوفر قطيع).
إعلاء الصّوت حتى نتحايّل على الضّمائر، إبداع فنّ التّبرير والتّطبيع لننجو من النّفس القديمة، تلك التي قد تكشف المرآة وتعرّض أزياءنا لنور الشمس وللهواء، قد تبهت الجلود، وقد تطير الأردية التي تمكّننا من النّسيان.
هل بيننا شجاع...؟، متى كانت آخر مرّة ظهر فيها بيننا من يلبس الحقيقة؟؟، من لا يخفي نفسه العميقة، من لا يبتسم للظلم إذا كان يستره، من لا يعبد صنماً؟ متى كانت آخر مرة استطعنا فيها تحمّل عشق الأحرار إلى الثّمالة، إلا وهم موتى؟
متى قدّمنا جمالَ الإنصاف على قبح احتياجنا...؟، متى وقفنا آخر مرّة في العراء وقد نضينا عنّا فضيلةَ الحساب ورفاه النّجاح ومتعة الاكتفاء والتفرد بالقيادة ودفتر الإنجازات العرجاء والمسؤوليّة الخرقاء والتزاماً كاريكاتوريّاً وقيماً أغلبها وباء.
لننصُر من أقدم على حرق ذلك كلّه من أجل صوت بعيد غريب عنا، يرفض التّراجع والزّيف والتّشابه والمصنوع، يلقي بممتلكاته كلّها من سمعة وسلطة وأمان وحرّيّة (شكليّة) ومسؤولية.
ليقول ما لم يُقل، وليفعل ما لم يُقدم عليه الجمهور، سيرون إقدامه تهوّراً وشجاعته رياءً وتجرّده عبثاً، لطالما كان الجبن فضيلتنا السّرّيّة ولطالما كان الخوف حتّى مولد الكورونا المخلّص، رمز المرور الوحيد في حياتنا مع قرار توافقي (تحت الطاولة)، على إلباسه رداء الرّجل الخفيّ إشفاقاً على التاريخ، وتأبيناً للجغرافيا.
الكورونا خلّصتنا من عقدة " الشيزوفرينيا "، ومن دنس التستر، طهّرت جبننا، وأرسلتنا في طريق الإبداع، إبداع مقولات الأنانية والفردية والمزيد من تقنين الرفق والإحسان.
المزيد من تجميل صورة الآخر الغريم، غريم النّفَس، ممكن من ممكنات الفناء.
والرهاب من الآخر والخوف الشديد من الغير، والتي مثلت الى حد ما تحد للفلسفة الإنسانية الاجتماعية من ناحية السيكولوجية على المستوى الفردي، حيث طرح فرويد فكرة الفصل بين المريض والشيء المثير للرهبة والخوف، وفرض تجنبه، وذلك ما دفع البعض ممن عاصره للتساؤل عن مدى سلامة فرضيته إذ أن الفلسفة القديمة عمدت الي التنظير بأن الإنسان اجتماعي بطبعه حسب الفطرة،
علماً أن ذات الفلسفة تصنف المخالف للطبيعة غير مألوف والمناف للفطرة بمثابة الطفرة أو التشوه إن صح القول، يعد هذا النوع من الرهاب عائقاً للطبيعة الإنسانية علماً أنه قد تحول في ماهيته من اضطراب نفسي إلى مصطلح شامل حتى صار شبحاً مثيراً للرعب يتغذى من الضعف والجبن والآفات ومن الخوف أصلا.
الآن تعد الأوبئة وخاصة المعدية والخطرة مصدراً مغذياً للخوف، فالخوف من الإصابة بالعدوى يزرع الخوف ويثير الهلع، ولم يعد الأمر محض وعي وإدراك بخطورة الأمر بل تجاوز ذلك لخوف شديد ملحوظ في أعينهم وتصرفاتهم، فيعادل الخوف من الموت الخوف من الآخر؛ وكأن الآخر هو الموت ذاته.
الخوف والجبن حقيقة، خوف الخوف من الخوف، سلسلة تكبلنا إلى الجبن حتى ضربنا الأمثلة والأقوال وادعينا أن الجبن والهرب نصف الشجاعة، والذكاء كذبة نزين بها قبح الحقيقة لأنفسنا.
ولكن السخرية في الأمر أن تلك الكائنات المجهرية هي التي كشفتنا أمام الجبن
والخوف وأرتنا حجمنا الحقيقي وهو أضعف وأصغر من فيروس (ماراتوني) غريب، ساخراً من الأخلاق السرية للبشرية، أخلاق الخوف والجبن التي تتخفى تحت مسميات السلامة.
واقع الكورونا الذي سيجعلنا نشهد رغماً عنا زلزالاً أخلاقياً تبعاً للزلازل البيولوجية والاقتصادية التي بدأت حركتها بالتشظي والضياع والخسران المبين للجميع.
طوبى لنا، اليوم بإمكاننا بناء علم أخلاق مؤجّلة، لن نخجل اليوم من جعل الخوف إماماً، والجبن طريقاً إلى سعادة ما بعد الكورونا.
أماني بليبل
كاتبة سورية