[الكميات الأولية التي تطرحها شركة آبل الأميركية من الهواتف «آيفون » تُباع بالكامل على مستوى العالم]
رويترز.
يضيء هاتفك الذكي. تصل رسالة سريعة. ينبض الواتساب. يزقزق الفيس بوك. الانستغرام. السناب. التويتر. السكايب. التليغرام، وما سيأتي لاحقاً من (عصفورية) التواصل.
قديماً لم تكن تسمع إلا رنين هاتف يتيم، يمكنك ببساطة تجاهله فلا ترد. أما الآن فالعالم يلاحقك بما تريد وما لا تريد معرفته، وبالمقابل ينقل حالك وأحوالك، يدوّن حركاتك وسكناتك، بماذا تشعر.. وأين تكون.. ومع من تتناول وجبة إفطارك..!
شيئاً فشيئاً تشعر بأنك (مشغول وفاضي) يتلاشى وقتك وتكاد تفقد أعصابك. خذ حبة زاناكس، الدواء الذي تتناوله نصف الكرة الأرضية، أو ارم من يدك جهازك الأذكى منك.
إن هاتفك النقال الذي تحتضنه أكثر مما تحتضن زوجتك وأطفالك صار يملكك بالكامل. وكلما فكرت بالاستغناء عنه تورطت به أكثر، فوظائفه تبهرك، يسليك ويعوضك عن نصف دزينة من أصدقاء لا تحتاجهم، يذكرك بهدية كي ترسلها، ومناسبة لا تجد الوقت لحضورها. يوماً بعد يوم تقع في أسره، تعتمد عليه حتى يلغيك.
ولست وحدك، فمن الشجاع الذي يتخلى عن مزايا اختراع لا تعد ولا تحصى. إنه وسيلة اتصال وتواصل، ومنبه يذكرك بمواعيدك وخططك، وهو مفكرة لتدوين الملاحظات، وجهاز لسماع الأغاني، وكاميرا لالتقاط صور تثبت أنك حي ترزق، وقاموس تستعين به وقت السفر، ومجموعة ألعاب على حماقتها تقطع الوقت فلا تشعر أنك متسمر في غرف الانتظار وعند محطة الباص، وأمام موظف نسي وجودك، وهو أداة لتعرف ارتفاع نسبة الإصابات بالكورونا، وخبر إطلاق صاروخ أطلس الخامس في مهمة سرية، وأسعار النفط والمقادير اللازمة لصنع كيكة التمر.. هذا إضافة إلى مزاياه كجهاز تجسس على من يهمك أمرهم، إذ يحدد وقت ظهورهم ونومهم وأماكن تواجدهم. بل ويتوقع منه في أحد تطويراته القادمة أن يعد قهوتك الصباحية، أو أن يكون مسؤولاً عن طبخ الأرز.! فهل تستبعد ذلك؟
عن طريق الهاتف أيضاً تقيس ضغطك وعدد نبضات قلبك والسعرات الحرارية التي تفقدها، وتصلك غرامات المخالفات المرورية فور ارتكابها. إلا أن أحد أهم محركات الهاتف الذكي خرائط غوغل -بالنسبة لي على الأقل-فكلما هبت رياح الحنين، فتحتُ خريطة مدينتي حلب، وتتبعت بإصبعي شوارعها وعماراتها وأصص الورد على حواف شرفاتها، ودواراتها، حديقتها العامة، مقاهيها، وأرصفتها ومزاراتها وقلعتها، حتى تسكن الريح ويطمئن الحنين.
خرائط غوغل يحتاجها من فقد بوصلته، أو عاش غريباً، أولئك الذين ضيعتهم الدروب والجهات، واستحكمت بهم المنافي، فإذا ما حالفهم حظ الوصول، قضوا ما بقي من حياتهم في الاعتذار عن صدفة نجاتهم.
لكن الهاتف الساحر.. الهاتف المعجزة، لن يقدم لك بشراً حقيقيين لا تحتاج لمعرفتهم سوى أن تفتح الباب وتقول: صباح الخير أهلاً وسهلاً. ولن يدلك إلى المحبة، وسيقف عاجزاً أمام رحلاتك الأهم في الحياة، فهو لن يصلك بحبيب فقدته، ولن يرسم لك طريقك نحو السعادة، ولن يعدد الأسباب العشرة الأولى لقهرك، وسيصاب بالوجوم حين تسأله عن إلهام قلبك أو موعد موتك أو احتمالات حزنك. وبالتأكيد لن يعرف شيئاً عن أوجه الحقيقة المتقلبة؛ تغيراتك وتبدلاتك فأنت اليوم غيرك غداً مهما تأكدتَ من ملامحك.
مالا تستطيع الاستغناء عنه حتى الآن، ليس إلا تكنولوجيا حمقاء، تغرقك في وحدتك وتسرقك من الحياة.
استفت قلبك.
سوزان خواتمي
قاصة وكاتبة سورية