كما تكونوا أم كما يولَّى 


 

يقول حكيم الصين (كونفوشيوس): السياسة هي الاستقامة، فإذا كان الحاكم مستقيما هل سيجرؤ المحكوم على ألا يستقيم؟.. 

إن قراءتنا لهذا القول تدعونا أولاً لقراءة وتأمل قول الله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، ولقد قال بعض المفسرين إن معنى أمَرْنا مترفيها أي جعلناهم أمراء على تلك القرية، ونقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام:(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).. 

والسؤال الآن هل الفئة الحاكمة هي من تصنع المجتمع؟ أم أن المجتمع هو من يصنع حاكميه؟، وللعلم فإن جدلية الحاكم والمحكوم نوقشت كثيراً في تاريخ الفكر السياسي، وما نود تسليط الضوء عليه هنا هو أهمية عمل الحاكم في تشكيل الوعي المجتمعي وتهيئة مجتمع معاصر قادر على مواكبة العلوم والحضارة، وبالمقابل دور الوعي الشعبي في القدرة على اختيار الحاكم القادر على قيادة الدولة والمجتمع، ومحاولة إثبات صحة النظرية من خلال ربطها بالواقع المعيش في عالمنا اليوم، فمن يتبنى نظرية أن الشعب هو المسؤول عن نوعية الحاكم الموجود هي نظرية صحيحة رغم ان ما ينسب من قول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما تكونوا يولّى عليكم) هو قول ضعيف إلا أن فيه الكثير من الصحَّة حيث نرى في واقع حياتنا أن الشعوب كان لها دور كبير في صناعة الطغاة، وأيضا في صناعة الديمقراطيات، وأنه لا يمكن لحاكم أن يكون طاغية لولا وجود شعب يمتلك قابلية الانصياع والرضوخ ويمتلك أيضاً ثقافة العبودية للحاكم، فالطاغية في النهاية رجل مفرد لا حول له ولا قوة بدون وجود من ينفِّذ له ما يريد، وهذا ما عبَّر عنه رجلٌ مسنٌّ خلال مجريات ثورة الكرامة عندما قال مخاطباً رأس النظام السوري: (نحن من جعلك أسداً ونحن من سيعيدك حماراً) لقد قالها الرجل بعفوية ولكنه أصاب الكثير من الحقيقة، فأربعون عاماً من تمجيد الطاغية ليلاً ونهاراً والنظر اليه كقائد ملهم مخلِّص، هذا الفعل لا بدَّ أن يرسِّخ وجود الطاغية بشكل فعلي ويزيد في طغيانه أضعافاً مضاعفة، وهنا يراودني السؤال، ماذا لو كان أي شخص آخر مكان هذا الطاغية، هل سيبقى رجلاً عادياً دون أن يتحول لمستبدٍّ مع وجود كل هؤلاء الممجدين والمهللين!؟ وبالمقابل يراودني سؤال آخر، أليست الشعوب هي من ثارت على حالة التخلف والجهل وغيرت أنظمة الحكم في أوروبا حتى وصلت لما تصبوا إليه؟.. 

أما بالنسبة الى من يتبنى نظرية العكس التي تعطي للحاكم أولوية صناعة المجتمع كما يرى (كونفوشيوس) وغيره فهم أيضاً محقُّون في رؤيتهم، فالحاكم هو العقل والرأس الذي يدير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والوعي الاجتماعي لا ينفصل عن التعليم المدرسي ووسائل الأعلام ودور العبادة والمؤسسات الفكرية والثقافية التي تدار بشكل مباشر أو غير مباشر من سلطة الدولة، ويجب أن لا ننسى أيضاً الجانب الاقتصادي الذي يؤثر بشكل كبير في تنمية الوعي المجتمعي والذي هو مهمة من مهمات الحاكم، وهنا يحق لنا التساؤل عن كيفية انتقال العرب قبل حوالي 1400 عام من حالة البداوة- كما يقول ابن خلدون- الى حالة الحضارة في غضون خمسة وعشرين عاماً تقريباً؟ أليس الحاكم هو الذي جمع هذه القبائل وجعل لها كياناً ودولة عظمى آنذاك (حتى لو أستثنينا عهد النبوة فالنبي شخص استثنائي مؤيد بوحي إلهي وتكلمنا عمن جاؤوا بعده) ؟، وهنا أيضاً لابدَّ لنا من الإقرار بصحة قول كونفوشيوس في أهمية تحكم الدولة في تطوير الحالة الفكرية والثقافية للمجتمع، ومن أهمّ الأمثلة على ذلك فترة حكم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي تولى الخلافة لمدة عامين فقط بحسب أكثر المصادر، فبعد حالة من الركود والانحطاط أعاد للدولة أمجادها من جديد.. 

وبالعودة لحكم آل الأسد لسوريا وكيف استطاعوا تشكيل ثقافة اجتماعية قائمة على تمجيد وتعظيم الحاكم والخوف منه بنفس الوقت، فمناهج التعليم وشاشات التلفاز لن تجد فيها إلا صور وقصص البطولة للقائد الذي أضاف سوريا كوطن لاسمه كشخص (سوريا الأسد) وليس (أسد سوريا) حيث أصبح في لا وعينا أن الوطن هو القائد ذاته، نعم لقد سيطر الحاكم على كل منافذ الفكر التي تشكل الوعي الإنساني، فكيف لهذا المجتمع أن يتطور خارج حديقة الحاكم؟ ومن الأدلة أيضا ظهور القدرات الإبداعية والفكرية والمهنية للسوريين في المهجر وكيف أنهم أثبتوا أنهم شعب قابل لأن يكون (حضارياً) إذا توفرت حكومات تقدِّر معنى الإنسان، فالسوري هو ذاته الذي كان في وطنه يرمي أكياس القمامة في الشارع ويتزاحم في وسائل النقل ويشنُّ حروباً على أفران الخبز هو ذاته الذي نراه اليوم في دول الاغتراب إنساناً منضبطاً ومنتظماً بالقوانين لأن الدولة رسخت فيه هذه الثقافة..

وخلاصة القول إنني أتبنى رأياً يجمع كلا النظريتين معتمداً بذلك على منهج ابن خلدون في دراسة صيرورة التاريخ والذي أطلق عليه (الجدل) أو كما يسمى في الفلسفة (الديالكتيك) والذي هو باختصار عملية تراكم تاريخية تنشأ منها ظواهر جديدة في المجتمع بالاعتماد على الفكرة ونقيضها، أي أننا لا يمكننا إغفال دور الوعي المجتمعي في صناعة الحاكم ولا إغفال دور الحاكم في تطوير وتأهيل هذا الوعي، وبعبارة أبسط إن الدولة مسؤولة عن وضع أسس لبنى تحتية تكون بمثابة حجر الأساس في بناء الوعي وبناء البنية الفوقية التي تضم (السياسة والفكر والدين والفن والأدب..) وبالمقابل لابد من وجود وعي اجتماعي قادر على استغلال حالة الإمكانية التي توفرها الدولة للانتقال للحالة الحضارية وبذلك يبرز دور المثقفين والمفكرين ومدى تأثيرهم في تكوين العقل الجمعي، فجميع الثورات لها بذور في عقول المثقفين، وعندما تنتقل للحالة الشعبية تكون قد ظهرت كحالة واقعية اجتماعية، وما يجسد هذه الفكرة تماماً هي بداية انتفاضة مدينة حلب حيث كانت الانطلاقة من جامعة حلب ومن محامي القصر العدلي ومن ثم الانتقال للأحياء الشعبية، هذا، وفي غياب البنى التحتية في عالمنا العربي المؤهلة لإقامة فكر حداثوي ثوري يواجه الجهل والتخلف، نرى الربيع العربي مثالاً صارخاً على أن صيرورة التاريخ لا تلتزم بالحتمية الماركسية التي تصور مسيرة التاريخ على أنها أمر واقع لا مفر منه، بل إن حالة الثورات في العالم بأسره وعلى مرِّ العصور كانت تخرج بعكس مجرى التاريخ، وتحاول قلب الحالة السائدة من جهل وفقر وتخلف، إلى المطالبة بالحريات والانفتاح..

إنه دور الشعب لخلق طفرة في مسيرة التاريخ، فكيف إذا توفر لهذا الشعب حاكم ثائر مفكر كالحالة البوسنية مثلا حيث استطاع الرئيس المفكر والمحامي المجاهد علي عزت بيجوفيتش ومن ورائه أربعة ملايين من شعب البوسنة الصامد انتزاع اعتراف الأمم المتحدة بدولة مسلمة في قلب أوروبا وكسر شوكة الصرب الذين يملكون السلاح، ومن هذا وذاك نخلص وباختصار شديد إلى أن الحاكم والمحكوم خلية قادرة على التكاثر والإنجاب والنمو إذا كان هذا التفاعل داخلها تكاملياً وليس انشطارياً أحادي الجانب...

 

 

محمد ياسين

 كاتب سوري


 

Whatsapp