لن أزور قبر أمي


 

حين أعود سأحدق طويلاً في الوجوه التي أتعبها القهر، وقد لا أتذكر الكثير منها، فتلك العيون الجاحظة ليست عيني أخي التي كانت تشع نوراً، وهذا الجسد المتهالك ليس جسد أختي التي تركتها حين هربت، جاري أيضاً يعرفني جيداً لكني لا أتعرف عليه فأطرق برأسي خجلاً من لهفته حين لقائي فاتحاً لي ذراعيه ليضمني في أحضانه وأنا أتراجع خوفاً من أن ينفجر قلبي من صدري اشتياقا له.

حين أعود سأزور القبور ولن أبكي سأكون أكثر قوة، وأكثر قسوة على ذاتي، وأبصق في وجهي، وأغرز أظافر يدي في خدي وأصرخ "سودة علي يا يما"، وأهيل التراب فوق رأسي من كل القبور التي أعرفها والتي لا أعرف من فيها.

حين أعود ستنكرني الأرض والأرصفة، وحتى مقعد الحديقة الخشبي المكسور لن يعرفني، الزوايا ليست كما هي، ولا حتى الحواري، ولا الوجوه، شجرة التين أيضاً يبست أوراقها صفراء باهتة مع الثمر المتساقط على الأرض، والحليب الأبيض الذي كان يسيل منها حين نخدش جذعها قد جفّ أيضاً فلم أعد أستطيع استخدامه لعلاج بعض الأمراض، حتى العصافير التي كانت تتسابق لنقر التين المتساقط أرضاً تركت كل شيء على حاله.

قبل هروبي اعتدت سماع صوت العصافير صبحاً ومساءً حين تأتي لتشرب المياه آمنة من فتحات المكيف الصحراوي بشكل يومي، وكنت أضع القليل من الخبز اليابس في إناء قريب، بعد هروبي حافظت تلك العصافير على موعدها ظناً منها أني لازلت في البيت، وأنا كنت أسمع صوتها عن طريق رسائل صوتية تصلني كل فترة متقطعة، أخبرني جيراني أن العصافير هجرت أيضاً بلكون بيتي حين سرقه اللصوص، وسكن فيه غراب أسود من بلاد بعيدة.

حمل كل ذكرياتي الجميلة ورماها في الحاوية القريبة، وحدها جارتي التي تملك قلباً بحجم الكون، سارعت لالتقاط شيءٍ من الحاوية فيه بعضٌ من رائحة جوار أحبتهم ويحبونها.

حين أعود لن أجد الفوّال ولا البقّال ولن أجد مسجداً أمامه براد ماء بارد أرتوي منه حين عطشي، وسأبحث طويلاً عن "ياسر المعراوي" في تقاطع الخضر مع شارع تل أبيض لأشرب منه كأساً من عرق السوس البارد، ولا يأخذ ثمنه مني ، وأكمل طريقي نحو شارع المنصور كعادتي حين زيارتي شبه اليومية لبيت أهلي لأشتري لأختي بعض الحلويات من شعيبيات "أريحا" كما تحب، حتى بعد وفاتها حافظت على عادتي تلك لكن الفرق كان بعض الدموع المصاحبة لي حين كان الفرح يملأ قلبي وأنا أشتري لها، وأتنقل كعصفور كي أصل لها محملاً بما تحب لتستقبلني بتلك القبلة على جبيني، هو ذات الجبين الذي خذل مدينتي وأهلي لكني سأبصق عليه حين أعود فلم تعد هناك شفاه تتوق لتقبيله كما السابق، ولم يعد هو ذات الجبين الذي تحترمه الناس.

أوصيت بدفني هنا في مقابر السوريين بشاهدة قبرٍ بلاستيكية بحجم كف اليد لكنها ذات لون أخضر غامق تذكرني بتلك الأشرطة القماشية التي كنا نتبارك بها بمعصمنا حين كنا نزور قبور الأولياء بمقبرة أويس القرني، في سوق القوتلي أيضاً لن أرى "أبو عمشة" مسرعاً بخطاه نحو الشرق البعيد فقد تغيرت معالم المدينة، ولم تعد تلك المدينة تستقطب القلوب الطاهرة.

سأرتوي من نهرٍ أتعّمد به سبع أيام وليالٍ عساني أتطهر، وحين يلفظني جثة هامدة على ضفافه بالرقة السمراء أكون قد عدت بابتسامة فقدتها منذ هروبي الأول.

 

 

عروة المهاوش

كاتب وصحفي سوري


 

Whatsapp