القدس العثمانية


 

نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل أيام خبرًا جعل من كتابة هذا المقال أمرًا حتميًّا، الخبر الذي جاء فيه أن مباحثات جديدة انطلقت حول مستقبل القدس بين إسرائيل والإمارات والسعودية والأردن. ولعل الخبر لا يحمل قيمة تذكر إذا ما وضعنا في اعتبارنا الأوضاع التي نعيشها منذ بضع سنوات لا سيما سياسة تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج التي ينتهجها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. غير أن ما يجعل هذا الخبر مهمًا هو محاولات الحكومة الإسرائيلية، صاحبة الشرعية المشكوك فيها، لضم الضفة الغربية بدعم حصلت عليه من ترامب. ذلك أن محو فلسطين من الأذهان هو من أهم أولويات الطريق الموصل لإقامة إسرائيل الكبرى. ولأنّ إسرائيل لن تستطيع تنفيذ هذا المخطط بمفردها، فهي بحاجة لشركاء. ولهذا فإن إسرائيل تستنجد بالشركاء من أجل تحقيق هدفها الأساسي الذي تجعل من القدس ستارًا له.

لقد أزعج موقف تركيا إزاء إعلان إسرائيل للقدس عاصمتها المزعومة من يخدمون ذلك الهدف. فهذه الدول دائمًا ما تنتقد سياسة تركيا المتعلقة بفلسطين والقدس في محاولة منها لتخدع الرأي العام لديها. كما نرى البرامج التي يكلفون بعض الحثالة بتقديمها والرسائل التي يبعثونها من خلال عناصرهم على مواقع التواصل الاجتماعي تزعم أن تركيا تستغل القضية الفلسطينية ولا تتعامل بإخلاص معها. وهكذا فإنهم يبعدون أنقرة عن قضية القدس ويخدمون المصالح الإسرائيلية.

تعبّر قضية القدس، التي تشغل أجندة الأحداث منذ قرن من الزمان، عن الألم بالنسبة لجميع المسلمين، بينما هي أساس الصراع التاريخي بين اليهود والمسيحيين. بل إنّ هذا البعد الثاني أخّر وضع المسلمين سياستهم وإفراز استراتيجياتهم بشأن قضية القدس. ولعل أبرز دليل على ذلك هو إنجاز معظم الدراسات التي تناولت هذه القضية على يد شخصيات يهودية ومسيحية. ولهذا فإن الوفرة العددية في الدراسات التي أشرت لها في بعض مقالاتي السابقة تمنعني حتى من مقارنة تلك الدراسات بنظيرها في العالم الإسلامي. فقضية القدس لم يتم تناولها تقريبًا في أي من دراسات المسلمين في آسيا الوسطى والشرق الأقصى، كما أنها من بين المواضيع المحظورة في جامعات بعض البلدان العربية.

ولقد شهدنا زيادة، غير كافية في الحقيقة، في عدد الدراسات التي أجريت في تركيا حول هذه القضية في السنوات الأخيرة. فبالرغم من أن أمهات مصادر تاريخ القدس، لا سيما جميع مصادر الحقبة العثمانية التي امتدت لأربعة قرون، موجودة في تركيا، إلا أن عدد الدراسات التي تتناول هذه القضية محدود للغاية، وهو ما يدفعنا للتساؤل حول هذا الأمر.ولعل عزاءنا في هذا الأمر هو ظهور بعض الأعمال الأكثر جودة مقارنة بما كان موجودًا في الماضي. هذا فضلًا عن حدوث زيادة ملحوظة من ناحية الكم والكيف في الدراسات التي أجريت في الجامعات التركية في آخر 3 أعوام.

ومن بين هذه الدراسات أذكر رسالة الدكتوراه التي أعدها الأستاذ علاء الدين دولو عضو هيئة التدريس بجامعة قاسطمونو التركية والتي طبعت قبل 4 أشهر على هيئة كتاب حمل عنوان "القدس العثمانية: هوية المدينة والنفوذ والشرعية" عن دار كوره للنشر. وقد استند المؤلف في عمله هذا إلى الأراشيف والمصادر الأصلية، فركز على الحقبة الممتدة بين عامي 1703 – 1789 من تاريخ القدس تحت الحكم العثماني ليقدم عددًا لا بأس به من الأدلة الجديدة. وبفضل هذه الدراسة الواقعة في 4 فصول أنقذنا السيد دولو من قراءة تفاصيل هذه الحقبة فقط مما كتبه الباحثون اليهود والمسيحيين. ذلك أنه لا يوجد في العالم الإسلامي أي دراسة مهمة تتناول هذه الحقبة باستثناء دراسة أخرى أجريت في تركيا وبعض الدراسات المحلية التي قام بها باحثون فلسطينيون. ولهذا فإن هذا الكتاب مرشح ليملأ فراغًا كبيرًا ويستحق أن يترجم إلى العربية وسائر اللغات الأخرى.

يكشف هذا الكتاب، بطريقة غير مباشرة، وجهة النظر التي روت من خلالها تركيا قضية القدس. فالمؤلف يتناول بحرفية عالية مقطعًا واحدًا يحمل الكثير من المشاكل من مقاطع التاريخ الممتد لقرون، وهو يقدم العديد من النماذج التاريخية لمن يبحثون عن صياغة معادلة في القدس. ولم يسع الكاتب لانتقاء الأحداث الإيجابية فقط، بل إنه انتهج طريقة علمية واقعية لتصوير كل ما كان يحدث في إحدى المدن العثمانية بموضوعية تامة. فهذه المرآة التي سلطها الكاتب على القدس العثمانية من حيث المكان والبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية تسلط الضوء – في الواقع – على العديد من المشاكل العصرية وحلولها. وبهذه المناسبة أود نقل اقتباسين من الكتاب لتذكير المسلمين بمدينة القدس التي حظرت عليهم اليوم.

"كان سكان المدينة من غير المسلمين يتمتعون بحرية أداء طقوسهم الدينية، كما كانوا أحرارًا في إنجاز معاملاتهم وفق المذهب الذي يريدون. وأما محاولات الإيقاع بينهم والتسبب في مشاكل كبيرة تمت بشكل كبير من خلال سكان الريف من الرومان". (ص: 255)

وإلى جانب هذا الاقتباس الذي يتناول القلاقل التي وقعت بين الأرثوذكس والكاثوليك، فإن السيد دولو يقول ما يلي بشأن انزعاج بعض المسلمين والمسيحيين من إشعال اليهود القناديل ليلًا وتلاوة التوراة بصوت مرتفع:

"لقد أزعجت طقوس الدعاء هذه التي كانت تشهدها أحياء اليهود أهل العرف الذين ثارت ثائرتهم، فجن جنون اليهود ليمنعوهم من اعتراضهم. وعندما عرضت على السلطان هذه الأفعال الفردية التي تعيق الحرية الدينية لغير المسلمين من أهل الذمة، أنكرها السلطان بشدة، فصدرت تعليمات لقاضي القدس من أجل حل هذه القضية لمنع وقوع الظلم على أهل العرف". (ص: 255 – 256)

أعتقد أنه لا داعي لمزيد من الكلام، فمن أراد فهم الأمر سيقرأ هذا الكتاب. ولهذا فإن الذين يريدون إبعاد تركيا عن القدس هم الذين يخافون من هذا الإرث.

Whatsapp