حينما يحكم الحيوان


 

لم يكن وصف الرئيس الأميركي لجزّار سوريا ومدمّرها بشار الأسد بالحيوان مجرّد شتيمة خارجة عن سياق الأعراف الديبلوماسية، ولا هفوة أو خطأ لغويّاً أو زلة لسان، فما قاله ترامب هو حقيقة ناقصة يلزمها كثير من الترميم والشرح والتفسير. 

لقد بدأ حكم هذه العائلة الدموية بأبيه حافظ بالوكالة عن الدول التي احتلت سورية الكبرى وبتفويضٍ منهم، وكان مناطاً به عديدٌ من المهام أوّلها حماية الكيان الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، ومنع قيام أيّ مشروع نهضويّ وطنيّ، والعودة بهذه الدولة الوليدة المبشّرة إلى عهد ما قبل الدولة، أي إلى كيانات عرقية وطائفية وقبلية..

كان الطاغية الأب مجرماً وقاتلاً لكنّه وفق الرؤية الغربية لم يكن حيواناً، فقد أدرك - وهو القارئ الحاقد على التاريخ- مكانة سوريا العريقة وأهمّيتها الجيوسياسية الاستراتيجية للعالم، وعظمة مواردها البشريّة والمادية، وحاول ما استطاع، بما يملك من خبث ودهاء ومعرفة بلعبة أنظمة الدول القذرة، تنفيذ أجندة من فوّضه ودعم وصوله للسلطة، لكنّ حلمه بتحويل سوريا إلى مزرعة باسمه، وبتوريث أبنائه، وباستمرار حكم الأقلية التي شكّلها من الزعران والرعاع، اصطدم بحقائق ومعوقات يصعب تجاوزها لعلّ أهمّها أنّ السوريّ سليل حضارات وثقافات لا يمكن دحضها والتغلّب عليها إلاّ باستبدال جيناته ومورّثاته، وهو ما يستحيل وبخاصّة على أفّاق مجهول النسب مثله، ممّن لا ارتباط لهم بسورية سوى بهويّة مزيّفة وسجلّ مزوّر، ما دفعه إلى تحويلها إلى غابة مظلمة موحشة تسود فيها الضواري والأفاعي والسحالي، وتستوطن فيها البكتيريا الضارّة والطفيليّات، وتعصف بشرفائها وناسها الطيبين رياح الخوف والجوع وجميع أسباب الموت. 

وبالرغم من ارتكابه الجرائم والمجازر الموثّقة بحقّ الناس والمدن السورية، وممارسة الإرهاب ضدّ الدول المجاورة ودعمه ورعايته للتنظيمات الإرهابية فقد نال الطاغية الأب رضى الأميركي والأوروبي والفارسيّ، وأرضى وأسعد الحاكم العربيّ، وكافأوه حيّاً وميتاً، فنال وريثه مباركة الجميع وبخاصة الإدارة الأميركية، وقد توسّموا فيه واجهة متأوربة وحداثيّة للطغيان، يمكن أن تحقق الاستقرار والاستمرار في تحقيق مصالحهم اللامشروعة، وفي الإبقاء على سوريا محميّة للرعب والجهل والتخلّف، لكنّهم أخطأوا التقدير ولم يكتشفوا حيونة هذا الأرعن إلاّ في وقت متأخر. 

إذاً لم تكن المشكلة لدى أميركا في أن يكون بشار طاغيةً ومجرماً كأبيه، إنما المشكلة في أن يكون حيواناً في طريقة تعاطيه للجريمة، وفي أن يتحوّل إلى مركوب إيرانيّ وذيلٍ روسيّ. كان عليه أن يبرع في الالتفاف على مطالب الشعب بالتغيير، وأن يخطف أحلام الناس بالحرية والعدالة ويصلبها ويحنّطها، ويغلق عليها في مزهريّة من الزجاج الملون، أن يخفي حراشفه ومخالبه في صدريّة بيضاء وقفّازين من حرير، وأن يتأنّق في التدمير والتنكيل، كان عليه أن يكون قاتلاً جنتلماناً وحسب.

هذا ما يمكن أن نقرأه من توصيف الأميركي لمجرم الحرب بشار بالحيوان، لكن ما يدعونا كسوريين لنعت هذا الغبيّ بذات الصفة يختلف، فسوريّا التي نبتت في رحم ترابها أوّل بذرة للحضارة في الكون ونَمَت بين مفاتنها بواكير القرى والمدن، سوريا التي هبطت من سمائها تعاليم الإله ورسالاته النورانية فوزّعتها على جهات الأرض جميعها، سوريّا التي أشرقت شمس دولتها حين كان العالم يعيش في المغاور والكهوف، وأينعت في ربوعها حدائق الثقافة والإبداع فأرضعت أبجديّاتها وعلومها وفنونها للمجتمعات الخديجة وزوّدتها بمقوّمات الحياة، سوريّا لسان التاريخ وكتاب الخليقة الأوّل لا يمكن لقطيع من الضباع والذئاب البشرية أن يبتلع جغرافيّتها، وأن يستعبد أحرارها ويمحو إرثها المتجذر في خلاياها والمتعشّق في مسام إنسانها. 

قبل هذه الطغمة المجرمة قدّمت سوريّا أمثولة في نضالها التحرّري والنهضويّ، فطردت المستعمر الفرنسيّ ومضى رجالها في مشروعهم لبناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، لكنّ انقلاب الأب وسيطرته على مفاصل السلطة والحكم وممارساته التدميرية قوّضت هذا المشروع وعادت بسوريّة إلى ظلام القرون الوسطى.  لم ينظر الطاغية إلى جنّة الدنيا سوريّا إلاّ على أنها مزرعة مترفة تكتظّ بالثروات والكنوز، ولم ير في شعبها سوى قطعان من العبيد والخراف، كانت غايته امتلاكها ونهب خيراتها، وتحويلها إلى مستنقع ترتع فيه جراؤه وسلالته، وحين آل الحكم إلى الحيوان الابن وجد في التركة سعة لا يمكن استيعابها والسيطرة على براكينها المشتعلة، فأمعن فيما بدأه سلفه من إرهاب وتدمير وتهجير، وأصدر صكوك التمليك لشذّاذ الآفاق وسفلة الأرض، واستعان بالطغاة ومرتزقتهم وآلات قتلهم الجهنمية للإجهاز على حلم السوريين..  

ما زالت ثورة السوريين تتوهج وتزداد اتساعاً وعمقاً وقوّة، فما يمكثُ في بذور الأشجار العالية وما تمتصّه جذورها النبيلة يَلبثُ في الأغصان والأوراق، وسيثمر حرية وكرامة وعدالة ولو بعد حين. 

إنّها سوريّا جنّة الدنيا ومعلّمة البشريّة تقدّم الدرس الأخير للعالم وتقول:

لا تسمحوا يا أبنائي الطيبين، أينما كنتم وفي أيّ زمان، بأن تحكم الحيوانات الأوطان.

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 




 

Whatsapp