إذا عدنا إلى تاريخ الشعوب عبر الزمن، نجد بكل بساطة أن هناك شعوب عانت من تسلط حكامها والقائمين على قيادتها، وهناك الكثير من تلك الشعوب هبت تنادي من أجل حريتها بعد أن باءت بالفشل كل الأساليب الأخرى للوصول إلى حلول يستطيع المواطن من خلالها التمكن من تفاهمات تعطيه أبسط الحقوق ليستمر في حياة كريمة عادلة آمنة بعد أن ضاقت به سبل العيش جراء تسلط حكومته، حتى أصبح مفهوم الثورات والقيام بها حقًا شرعيًا.
يُجمع أغلب المفكرين على أن الثورة تكون دائماً "غير دستورية" ومخالفة للقانون، لذلك لا تكتسب شرعيتها من الدستور أو عبر الآليات القانونية المعتمدة، وإنما من ثوريتها، أي أصبح مفهوم الشرعية الثورية معتمداً في السياسة الدولية؛ ذلك أن الثورة، إذا انتصرت، تغير الدستور بدون الرجوع إلى الشعب غالباً، ويستلم قادتها السلطة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك فإن هذا التعريف لا يقرر أن الثورة ستنتهي إلى انتصارها، فقد حدثت ثورات كثيرة قام بها الشعب، وفشلت بأشكال مختلفة من بلد إلى آخر.
وهذا قادني إلى إجراء عملية مقارنة واسقاطات بين الثورة الفرنسية والثورة السورية والبحث عن أوجه الشبه بينهما ونقاط الاختلاف، لذلك يتوجب علينا التمييز بين الثورة بالمعنى المطلق والانقلاب، حيث الانقلاب يقوم به الجيش وبصورة سريعة ويستلم القيادة وبصورة عامة يكون متسم بالعنف وهناك من يقول أن الانقلابات قد تتحول إلى ثورة كمصر عام 1952، أما التمييز الثاني بين الثورة والاحتجاج، فالاحتجاج قد يكون محدود كمظاهرات ضد الغلاء أو ضد قانون ما أو حتى اتفاقية تريد إبرامها الحكومة مع دولة ما، وفي بعض الأحيان يتطور الاحتجاج المطلبي إلى حركة يشارك فيها الشعب كله تقريباً، كما حصل في تونس مثلاً، أو في مصر، وغيرهما وبلا شك نحن هنا نتحدث عن الثورة في المجتمع، ولا نتطرق إلى مفاهيم مثل الثورة الصناعية، أو ثورة المعلومات، أو الثورة الثقافية، أو الثورات التي قامت بها معظم الشعوب التي كانت مستعمرة في الثلثين الأولين للقرن العشرين. ومع ذلك تشترك هذه المستويات والمجالات كلها بأمر واحد هو التغيير، أي إن مفهوم الثورة كيفما استخدم ينطوي على هدف رئيس هو التغيير.
الثورة الفرنسية التي اعتبرت أول الثورات التي ألغت الملكية المطلقة والامتيازات الاقطاعية للطبقة الأرستقراطية والنفوذ الديني الكاثوليكي ورسخت مفهوم (الحرية والإخاء والمساواة) وهو تغيير جذري في المجتمع الفرنسي.
والثورة الفرنسية بكل آلامها وآمالها، بخطواتها ومبادئها العظيمة وأخطائها الأعظم، مازالت أي «الثورة الفرنسية» التي اندلعت في 1789م تراود أحلام كثير من الثوار العرب، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان عليها، واختلاف الظروف والأزمنة، فثمة تشابه كبير في الأفعال «الغبية» للسلطة وأعوانها، وصرخة المظلومين القوية، جعل الثورات «الفرنسية» من قبل والعربية الآن «عنيفة وقوية»، إلى حد كبير.
فما إن رفع الشعب الفرنسي صوته، ارتفع هدير الثورة يحطم أمامه كل أصنام النظام، وخرجت إلى النور مبادئ الحرية والإخاء والمساواة تنير ظلمات أوروبا، التي كانت تحكمها أسر فاسدة بموجب تفويض إلهي تقول إنها حصلت عليه ولا تُسأل عما تفعل.
هذا ما يحدث اليوم بسورية التي قام شعبها ببداياته يطالب بطريقة احتجاجية ضد الفساد ويطالب بالعدالة الاجتماعية وهو حق مشروع حيث يعاني ما يعانيه الشعب منذ خمسين عامًا من الاضطهاد والعوز والقهر والظلم.
لكن ما غير المشهد الفرنسي ودفع الشعب إلى الثورة كان فئة من ألمع العقول الفرنسية في كل المجالات الفكرية والفلسفية قادوا النهضة الأوروبية الثانية في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي.
استطاعت هذه الفئة التي ضمت موليير وفولتير وروسو ومونتيسكو ودريدور وكثيرين غيرهم إنارة عقول الفرنسيين، حيث بشروا بقيم جديدة تعلي من قيمة الإنسان وترسخ حقوق المهمشين والمطحونين أمام قهر الظروف الاقتصادية وجبروت الملوك أنصاف الآلهة والكنيسة البطريركية التي كانت تبيع الإيمان بالمال، وهنا نجد المفارقة بين الثورة السورية والثورة الفرنسية، حيث غياب أو شبه غياب تلك الطبقة أو المجموعة من المفكرين التي بأفكارها ورؤياها لمعنى الحريات ومفاهيم الفرد بالمجتمع دفعت الشعب على النهوض وهذا التغيب كان منذ استلام النظام الحالي يعمل عليه خشية أن تقود تلك الفئة من المفكرين ثورة ضده فأبعد المفكرين وراح ينشر فكرة الحزب الواحد لإدارة البلاد .
التاريخ يبين لنا ان فرنسا كانت في صراع وحروب مستمرة مع العديد من الملوك الأوربيين، مما أفقر شعبها بالإضافة إلى الاضطهاد والقمع المستمر للفلاح وابن الريف وقتها ثارت ثائرة النخبة الفرنسية المثقفة على تردي الأوضاع داخل البلاد، ، فانكفأت النخبة المثقفة التي مثلها فلوتير وروسو ومونتيسكو وديدور يبحثون عن الحل للخروج من النفق المظلم الذي دخلته فرنسا وبدا أنها لن تخرج منه إلا بأطروحات جديدة غير مألوفة، فقد كانت فرنسا في هذا الوقت مجتمعاً في أزمة لا يستطيع الخروج منها، وجاء المفكرون الكبار بأطروحات جديدة لعبور الأزمة الطاحنة، ومعظم هذه الأطروحات جاءت لإصلاح النظام الملكي من داخله لا بالثورة عليه، إلا أن تجاهل مطالب الإصلاح جعلت الأمور تسير في طرق لم يكن من المفترض السير فيها وبالحقيقة هذا ما حدث للشعب السوري الذي ومن بدايته طالب بإصلاحات داخل النظام ولكن تمت مواجهة الشعب بحملة قمعية لم يشهدها التاريخ .
مقولة فولتير الشهيرة «في فرنسا يسود حكم مطلق مستبد، وطبقة نبلاء إقطاعية مغرورة بنفسها وعاطلة عن العمل، في فرنسا تجد التجارة محتقرة، والفلاح مسحوقًا يئن تحت وطأة الضرائب المفروضة عليه من قبل الإقطاعيين، في فرنسا تجد الناس غارقين في المناقشات اللاهوتية العقيمة من نوع: هل هذا حلال أم حرام، نجس أم طاهر، مؤمن أم كافر، وهذا ما كان يعاني منه المجتمع السوري بين طغاة الطبقة الحاكمة ورجال ظلها وأسرهم التي تعيش حياة حتى الملوك لم يعشنها.
أما إذا انتقلنا إلى الشخصية الأساسية التي اعتمدتها الثورة الفرنسية ( جان جاك روسو ) والذي فند أصول الملكية الأوروبية عامة والفرنسية الخاصة، وأرسى قواعد العقد الاجتماعي الجديد الذي يحمل صراحة مساواة واضحة بين المحكومين والحاكم، فلقد أجاب روسو عن السؤال الصعب «لمن يعود حق التشريع؟»، في عام 1764م نشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي»، وبرهن على أن الدولة تنشأ من خلال عقد بين الفرد والنظام نتيجة للتطور من نظام طبيعي تسود فيه قيم الفرد إلى نظام اجتماعي يتنازل الفرد عن بعض سلطاته لصالح الجماعة السياسية، مع ملاحظة أن الفرد عندما تنازل عن جزء من سلطته لم يتنازل عنها لصالح فرد أو مجموعة أفراد وإنما تنازل للمجتمع ككل، لتنشأ إرادة عامة ينظم المجتمع بها شؤون أفراده، وهو ما يؤدي إلى ظهور الجماعة السياسية وتكوين الهيكل السياسي المنظم لشؤون المجتمع والقائم بمصالحه، ولما كانت الإرادة العامة هي القوة العامة، فللشعب أن يغير حكومته متى شاء، لأن كلمة الشعب في هذه الحالة إنما تعبر عن رغبته وإرادته العامة، وهنا نتساءل أين هذا العقد الاجتماعي بين الشعب السوري والسلطة الحاكمة وهل يفسر الفرد بالمجتمع هذه القيم الخلقية لإدارة البلاد أم يتوجب ضرب واقتلاع كل ما هو قائم من جذوره والبحث عن مفاهيم جديدة بين الشعب والحكومة لكي نصل إلى العدالة الاجتماعية بامتياز لنستعيد ما سرقه النظام منه كحق.
أعطى روسو الشعب الفرنسي مفتاح الثورة بعد أن أسقط نظرية الحق الإلهي للملوك في الحكم، وهذا ما نحتاجه اليوم، الإطاحة بذلك الحق المطلق بحكم سورية من قبل أسرة لا هم لها سوى القمع والإثراء على حساب قوت الشعب السوري، علمًا أن روسو لم يكن يدري أنه يدعو إلى ثورة لأننا بالواقع لم نجد أي كلمة صريحة في مؤلفاته تحث على الثورة ولكن كتاباته التي كانت تناقض واقع الحال بالمجتمع وبالنظام القائم فأصبحت هذه المؤلفات مبادئ عامة لحياة جديدة. إذا نظرنا إلى واقع الثورة السورية منذ عشرة سنوات ولتاريخ اليوم وما واجهته من حقائق لا يمكن نكرانها سنجد بالدرجة الأولى غياب الفكر التحضيري لتوعية الشعب رغم أنه يعاني الأمرين من الطبقة الحاكمة، وهذا ما عملت عليه تلك الطبقة الحاكمة وهو تغييب كلي للفكر عبر قمعها الطبقة المفكرة واضطهادها وإجبارها إما على السكوت أو الهرب خارج البلاد والهيمنة الكاملة على دور النشر والمنابر الفكرية حتى لا يستطيع الفرد الوصول إلى أي وسيلة يستطيع من خلالها الوصول إلى الرقي الفكري الذي كان مفكري الثورة الفرنسية ينادون به ما قبل الثورة ولكن كثرة الاضطهاد أجبر الشعب السوري على النزول للشارع ليجد النظام بانتظاره مع شتى أساليب القمع الوحشية وبحركات بهلوانية مخابراتية بامتياز، إن كانت خارجية أو داخلية انقسمت الثورة السورية وتشتت مطالبها بين حقوق وعدالة اجتماعية إلى شعارات لا علاقة لها بمجرى الأحداث الأساسية له، وبدأت الثورة تتقاتل فيما بينها وتتشكل فصائل وألوية تأكل نفسها وهنا أشدد على أن الثورة الفرنسية لم تخل من هذه الظاهرة وبقيت تعاني أكثر من عشرة سنوات اقتتال وتصفيات وخيانات وخلافات بالرأي حتى انتصرت بالآخر لأن المطالب كانت حرية شعب وعدالة مجتمع وهذا ما سيقود الثورة السورية لكل ما يحدث لها اليوم من إشكالات إن كانت خلافات فكرية داخلية مفتعلة أو مطامع خارجية استغلت الظروف وتم تعويمها على سطح الواقع.
سمير خراط
كاتب سوري