عندما كنت في المرحلة الإعدادية والثانوية لم أستطع أن أفهم العلاقة بين التاريخ والجغرافيا. ولماذا كانوا يدرسونا إياهما معًا ودرجتهما تدمجان أيضًا، وكنت أحب التاريخ إلى درجة الهوس وأكره الجغرافيا.
فالمنهاج وأساليب التدريس التي كانت تعتمد على البصم وحشو المعلومات. لم تتح لي الفرصة لفهم هذه العلاقة إلا بعد تخرجي من الجامعة ومن خلال المطالعة الذاتية استطعت فهمها وأدركت كيف أن الجغرافيا الطبيعية هي التي كانت اللاعب الأساسي في حكم حركة التاريخ.
ولكن في العصر الحديث مع بداية عصر التدويل (ما قبل العولمة) ومن خلال تدخل الإنسان في كل شيء بما فيه الجغرافيا. قامت الدول الغربية المهيمنة حينها بتقسيم العالم وفق مصالحها ورؤاها دون اعتبارات أساسية للجغرافيا الطبيعية بل وفق جغرافيا سياسية مصنعة بدقة وأناة وبناء على دراسات طويلة لتضمن لها عوامل البقاء لأطول فترة ممكنة.
وبذلك التحول أصبح الغرب المتفوق هو صانع التاريخ الحديث متحديًا عوامل الجغرافيا الطبيعية.
ولا شك أن أكثر منطقة في العالم قاطبة درست عملية تقسيمها وتجزئتها هي المنطقة العربية. فقد تم إرسال مئات بل آلاف من الجواسيس وضباط الاستخبارات ليجوبوا الأرض العربية بصفة مستشرقين وعلماء وأطباء ومبشرين.
وعلى عكس الانطباع السائد إن بريطانيا وفرنسا هما اللتان كانتا مهتمتين بدراسة المنطقة العربية فإن الحقيقة أن الألمان كان لهم العدد الأكبر من الجواسيس والدراسات وكانت ترى نفسها مهيئة أكثر لوراثة الدولة العثمانية حية أو ميتة.
لكن هزيمة الألمان مع حليفتهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى هو الذي مكن بريطانيا وفرنسا ومعهم روسيا للاستفراد بتقسيم المنطقة وفق اتفاقية سايكس بيكو المعروفة.
منذ أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين كان النشاط الألماني كبيرًا في المنطقة العربية التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية في قعر تصدعها. وكان التنافس واضحًا ما بين الانكليز والفرنسيين وروسيا من ناحية اللذين أرادوا إنهاءها لتقاسم تركتها وبين الألمان اللذين أرادوا استمرارها مع حصولهم على امتيازات تجارية واقتصادية واستثمار الثروات الطبيعية والمواقع الإستراتيجية في أراضيها (وراثتها حية) ولتحقيق ذلك قاموا بتدريب الجيش الانكشاري وتطويره وتزويده بالسلاح الحديث. كما توصلت دراساتهم أن الحل الوحيد لاستمرار حكم الإمبراطورية هو تطوير وسائل المواصلات فيها لتتمكن من إعادة السيطرة على الأطراف تحت النفوذ والإشراف الألماني طبعا. من هنا ولدت فكرة بناء خط سكة حديد تربط برلين حتى البصرة وكانت المرحلة الأولى (برلين اسطنبول قونية) والمرحلة الثانية (قونية اسكندرون أضنا) والمرحلة الثالثة (أضنا الموصل مع تفريعة إلى حلب) وكانت الأصعب عبر جبال طوروس وزغاروس والمرحلة الرابعة: (الموصل بغداد البصرة) لم تنفذ إلا بعد سقوط الإمبراطورية المتداعية عن طريق الإنكليز لكنها لم تربط فعليًا بالخط الأساسي.
استغرق العمل في المراحل الثلاث المذكورة أكثر من ٣٥ عامًا بتمويل ألماني كامل على شكل قروض طويلة الأجل وبتخطيط ودراسات وإشراف المهندسين الألمان أيضًا حتى تم الإنجاز في عام ١٩١١ .
لقد اعتبر الإنكليز هذا المشروع تهديدًا حقيقيًا لإمبراطوريتهم. وحاولوا تعطيله أو إلغائه عدة مرات كان آخرها في الحرب العالمية الأولى.
وهذا المشروع العملاق سيكون لاعب مهم في تحديد مستقبل سورية السياسي في العصر الحديث لذلك أسهبنا في الحديث عنه.
لم تكن صدفة أن تنتهي سنتين من المفاوضات الفرنسية البريطانية السرية إلى اعتبار خط سكة الحديد الواصل من أضنة إلى الموصل كحد فاصل لمنطقة النفوذ الفرنسي المسماة بالمنطقة A في الخريطة المرفقة باتفاقية سايكس بيكو الموقعة في ١٩١٦ وهو الذي سيتحول إلى خط الحدود السياسية لسورية أو الجمهورية العربية السورية.
حدود لا علاقة لها بإرادة الشعب العربي ولا علاقة له بالتاريخ أو الجغرافيا الطبيعية. وبريطانيا التي كانت تتآمر لإخراج هذه المناطق من الفضاء الطبيعي لها (العربي) كانت قد وعدت الشريف حسين في مراسلات مكماهون بالاعتراف بدولة عربية حدودها الشمالية جبال طوروس وزغروس.
أنا لا أدري كيف يمكن أن نعترف أو نحترم حدود رسمتها يد الأطماع الاستعمارية من ألماني أراد إنعاش إمبراطورية ليرثها حية، وآخر إنكليزي أراد الحفاظ على إمبراطوريته الحية باعتبار هذا الخط الحديدي ذو اهمية إستراتيجية توصل الإمدادات العسكرية من القاعدة الأكبر في قبرص إلى بغداد ثم الهند.
رغم حرص الحليفين الخصمين بريطانيا وفرنسا أن تكون المنطقة A مساوية تمامًا بالمساحة للمنطقة B إلا أن الطمع البريطاني دفعها لتحتل أكبر قدر ممكن من منطقة الانتداب الفرنسي ولم تنسحب منها إلا بعد مفاوضات شاقة (وما كادوا يفعلون) وكان ذلك الانسحاب مقابل الاحتفاظ بقضاء الموصل الشاسع والغني بالنفط. ومدينة الموصل كانت تاريخيًا مرتبطة ثقافيًا وتجاريًا وجغرافيًا -عبر خط مواصلات قديم- بمدينة حلب.
وهكذا تمت عملية فصل التوأمين بجراحة قيصرية. وأتبعت الأولى لبغداد تحت الانتداب البريطاني، والثانية لدمشق تحت الانتداب الفرنسي.
كان هذا العبث بالجغرافيا. مترافقًا مع اللعبة الاستعمارية المفضلة لدى الإنكليز وهي عمليات التهجير والنقل الجماعي لفئات من السكان. فقامت بتهجير العدد الكبير من الآشوريين بالاتفاق مع فرنسا لتوطينهم في منطقة انتدابها (سورية) كما رحبت فرنسا بتوطين عدد كبير من الأكراد.
وهاتان ورقتان من ضمن كثير من الأوراق التي تم تخبئتها للعب بها وقت الحاجة.
أما الأوراق شبه المكشوفة في اتفاق سايكس بيكو فكانت اسكندرون وقد أعطيت وضعًا خاصًا وهي كانت تابعة تاريخيًا لحلب ومنحت حكمًا ذاتيًا ثم تم فصلها عن سورية، وكان هذا مبيتًا
والمنطقة c التي تقارب حدود فلسطين الحالية والتي كان يجب أن تخضع لإدارة دولية بحسب الاتفاقية، لكن بريطانيا احتكرتها بتفاهمات ثنائية وبحكم الأمر الواقع.
ورغم الكشف عن هذه الاتفاقية ووعد بلفور الذي يعتبر مكملا لها فإن ذلك لم ينفع في تفادي نتائجها الكارثية. ولا يمكننا القول هنا لا ينجي حذر من قدر، لأنه لم يكن هناك أي حذر. ولم يكن هذا قدر محتوم.
بسام شلبي
كاتب سوري