عندما نذكر الجزيرة السورية أو الجزيرة الفراتية ، نذكر حضارة ضاربة في القدم، فقد سكن الجزيرة الفراتية الآراميون وأسسوا فيها عدة ممالك، ثم سقطت تحت سيطرة الآشوريين وهاجرت إليها قبائل عربية عندما تفرق أبناء عدنان، فقصدتها قبيلة تغلب العربية، كما شهدت المنطقة ظهور ممالك سريانية وعربية مثل مملكة الرها والحضر وتدمر وحدياب، وبقيت المنطقة تحوي نوعين من التجمعات البشرية الحضرية والبدوية تعيش بين نهري دجلة والفرات بدأت بداية الحضارة الأولى كما أجمع معظم المؤرخون وعلماء الآثار من هذه المنطقة، منطقة الجزيرة الواقعة بين نهر الفرات ونهر دجلة، ولقد عرفت هذه المنطقة أقصى ما توصل إليه الإنسان خلقاً وابتكاراً ففيها تم اكتشاف الألواح المسمارية التي أنشأت الأحرف الأبجدية الأولى في تاريخ البشرية، وفيها اكتشفت أقدم سلاح استخدمه الإنسان، وقد ورد اسم المنطقة [الجزيرة] في سفر التكوين باسم [ أرض شنعار] أما مصطلح الجزيرة فقد أطلقه البلدانيون العرب على الإقليم نفسه ، وتسمية الجزيرة [بالفراتية] ورد ت عند ابن خلكان واسمها بالجزيرة الفراتية، وابن خلدون في معرض حديثه عن منازل مضر وتسميتها بالفراتية يعود إلى كون نهر الفرات يحدها من الشمال والغرب والجنوب، وأطلقت المراجع الفارسية اسم [عربستان] أي بلاد العرب على منطقة نصيبين ومحيطها.
هذه المنطقة معروفة في صدر الإسلام وكانت متداولة في ذلك الزمان بشكل واسع، حيث جاء في نص الرسالة التي أرسلها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب لقائد جيوشه في الشام أبو عبيدة ابن الجراح ((فإذا قرأت كتابي هذا فاعقد عقدًا لعياض بن غنم الأشعري وجهز معه جيشاً إلى أرض ربيعة وديار بكر)).
الجزيرة السورية اليوم التي تعيش اختطاف تلو اختطاف ففي الثورة السورية، لم تتأخر مناطق الجزيرة السورية عن الالتحاق بالحراك الثوري ربيع 2011، ولا يمكن فصل المظاهرات التي خرجت أواخر آذار/مارس في مدينة دير الزور، الواقعة على الضفة الشامية لنهر الفرات، عن حراك بقية أرياف دير الزور على ضفة الجزيرة، أما في مناطق الكثافة الكردية، فلعلّ أول المظاهرات كانت في مدينة عامودا بمحافظة الحسكة في الأول من نيسان عام 2011. ثم سرعان ما اتسعت المظاهرات لتشمل مدناً وقرى عديدة في سائر الجزيرة، منها القامشلي والحسكة والشدادي ورأس العين وتل أبيض وعين العرب والرقة والطبقة وغيرها، وشهد بعضها حضوراً مشتركاً عربياً كردياً، وكانت تعبر عن روح عالية عظيمة لدى الوجهاء الكورد والعرب في المنطقة كان يبشر بفرص كثيرة لتجاوز كثير من الألغام التي زرعها النظام في المنطقة والعلاقة بين أبناء الجزيرة السورية الواحدة لتكون الجزيرة ذات الإرث الحضاري.
لكن تطورين متزامنين تقريباً غيّرا من مسار الأحداث، الأول هو بدء ظهور قوى مسلحة محلية (الجيش الحر) في مناطق متعددة من الجزيرة، وعلى وجه الخصوص المناطق ذات الكثافة العربية، وذلك في سياق تحوّل الثورة السورية إلى الطور المسلّح. والثاني صعود نفوذ مسلحين أكراد مرتبطين بحزب الاتحاد الديمقراطي، كفرع سوري لحزب العمال الكردستاني، وذلك تحت مسمى وحدات حماية الشعب في مناطق الكثافة الكردية شمال الجزيرة السورية.
استمرت الأمور على ذلك، لكن بالتوازي كان هناك سعي حثيث لاغتيال قادة الحراك الشعبي الكردي وأبرزهم الزعيم (مشعل التمو) واغتيال وتهجير عدد من الشخصيات العربية ممن قادوا الحراك في المنطقة، والتي كانت تزرع الأمل بمستقبل واعد للجزيرة، ثم تبع ذلك قوى الظلام تنظيم داعش الذي اختطف الجزيرة عبر قتل وسحل الآلاف من أبناء الجزيرة وأولهم أبناء دير الزور من أبناء القبائل العربية وأكثر الضحايا من (الشعيطات) حيث قتل منهم قرابة ثلاثة آلاف شاب، وبعد هذا التمدد السريع من تنظيم داعش فتحرك بعدها مباشرة التحالف الدولي متحالفاً مع وحدات حماية الشعب، وقد وضع التحالف شرطاً تعجيزياً بالنسبة لمن يحمل روح الثورة السورية فالتحالف يعلم بقرارة تفكيره أن القوى الوطنية من العرب لن تقبل الشطر الثاني من الشرط وهو قتال داعش وعدم قتال النظام.!!
فكانت فرصة لوحدات حماية الشعب لتصبح قوى أمر واقع من خلال تمهيد جوي كثيف من قوى التحالف الدولي ليحرق تنظيم داعش، ثم لتدخل وحدات حماية الشعب المنطقة وتتحول إلى قوى أمر واقع، وتخطف المنطقة من جديد عقب اختطاف داعش وتمارس ممارسات النظام على أبناء المنطقة ليبقوا مهجرين ولتسلط على رقابهم مقصلة النظام من طرف ووحدات حماية الشعب من طرف وبقايا تنظيم داعش من طرف، لتصبح أراضيهم للسلب والنهب والغنيمة، ولتخرج طبقة ليس لها في النضال أمام الأسد ولا أي دور يُذكر لتتصدر المشهد هناك وتُسلط عليها وسائل الإعلام وتكون قوى أمر واقع تتحكم بها بعض الأطراف الدولية بمفاوضات وتسويات المنطقة لتصبح ورقة في يدهم وإزعاج لدول المنطقة، وينقضي بذلك الأمل بتجاوز الألغام التي صنعها النظام إلى ألغام تفجرها هذه القوى نفسها وأحلامها، لتفرض هذه القوى مشروعها على حساب الأكثرية من العرب وبقية مكونات الجزيرة، وهذا ينم عن عقلية إقصائية استغلالية استغلت نكبة السوريين وتضحياتهم، لتفرض نظام حكم يكرّس استغلالها وتضع يدها على ثروات البلد ومقدرات الشعب السوري، فالسوريين الذين ناضلوا لانتزاع سورية من حكم العصابة المجرمة لا يمكن أن تترك لعصابة أخرى، باتت تعتقل طفلة (رهف حسن الصالح) التي لم تكن الأولى ولا الأخيرة وبتهمة انتماء والدها لقوى الثورة والمعارضة.!!
ثم إن المهجرين من أبناء المناطق السورية، تُيسر لهم طرق النزوح لمنطقة محددة ليتم حشرهم في مناطق المعارضة السورية الثورية وليس للجزيرة السورية ولو كان لهم أقرباء هناك علماً أنها أراضٍ سورية.!
وبات الذي يأتيها يحتاج إثبات إقامة!! ويتم تشويه المناهج التعليمة ليتم سلخها عن ثقافة المنطقة وقيمها.
الجزيرة السورية هي للسورين من أبناءها العرب والكرد والأشوريين واليزيدين وللمسلمين والمسيحيين منهم عموماً، والمستقبل للوطنيين السوريين وليس للمشاريع العابرة للحدود ونضال السوريين من أجل دولة حديثة وتحقيق قيم المواطنة والمساواة وليس للمشاريع الضيقة والفئوية.
انفجر السوريون ضد حكم الفئة والأسرة وضد اختطاف البلد واختطاف ثرواتها وهم بذلك لن يقبلوا بصورة أخرى مشابهة تختلف فيها العناوين ويبقى المضمون، ومن ثَمّ فإن ضعيف اليوم قوي الغد، وقوي اليوم ضعيف الغد، ولا حال يدوم على حاله.
د- زكريا ملاحفجي
كاتب وباحث سوري