رنَّ المنبه معلناً بداية أخرى لدوامته. وكعادته مدَّ يده وضغط الزر. بجَفنٍ واحدٍ مفتوحٍ وآخرَ مغلقٍ ألقى على الساعةِ نظرةً نَعْسى. كانت العقاربُ تشيرُ إلى الثانية عشرة وعشر دقائق..!
تنبهتْ أعصابُه الخدِرةُ، استيقظَ ذِهنُه متحولاً دفعةً واحدةً من الخمول إلى الصحو. هل سرقه النوم وفوّت الباص الذي يحشر جسده فيه محاطاً بعشرات الركاب متأرجحاً كالبهلوان حتى يصل مركز عمله.
فتح عينيه على اتساعهما، وجال ببصره مستطلعاً ما حوله؛ ظلال غريبة كانت تنعكس فوق جدران تقشر طلاؤها، لم يستطع التكهن بالوقت. تلمس فراغ الفراش في جهته اليمنى.
ألم تنم بعد..؟! أم أنها كعادتها هربت من شخيره ونامت بجانب ناصر ابنها المدلل..!
سأل نفسه، وغرق في تخميناته.
لم يحدث أن استيقظ متأخراً، كما لم يحدث قط أن نهض قبل موعده. أما استعانته بالمنبه فليست إلا عادة مزمنة تتحكم به.
زميلته في العمل سمر.. سهى.. ثريا، أو شيءٌ من هذا القبيل-الحقيقة أنه لا يتذكر اسمها-تستغرب دقته وانضباطه بمواعيد الحضور والانصراف. حاولت الإثناء عليه ومجاملته برِقّة ذكرته بالسحالي، قالت: كأنك ساعة بغ بن. أهنئك.. تحضر دائماً قبل الجميع.. لم تتأخر مرة واحدة.
أجاب متهكماً، منهياً محاولاتها التي يسيء الظن بها: ليس حباً بالعمل.
انفرجت شفتاها المثقلتان بأحمر شفاه داكن، دون أن تفهم تماماً ما يقصده.
بقيّ متجهماً.
متى تجد زميلته الملونة الوقت لتضع كل هذه الزينة؟. رموشها المثقلة بالكحل وأقراطها الكبيرة، شفتاها بشكل خاص ترعبانه. النساء مكانهن البيت، لماذا يزاحمن الرجال فرص العمل، ويتبرجن كأنهن في محل لبيع الدمى!.
بعض السلاحف تعيش مئة عام، الحوت يعيش أطول من ذلك، لكن هناك نوع من أنواع الفراشات لا يتجاوز عمرها 24 ساعة، يا للخفة .! ليته كان فراشة.
بانتظار محطته الأخيرة يمضي قطار عُمُرِه مُلتزماً بالسِكّة، وبذاك الصفير المدوي في رأسه. يعمل محاسباً في أحد البنوك يراجع حسابات الأثرياء ويحسدهم دون طائل، ثم يستلم في فترة بعد الظهر نوبته في قيادة سيارة أجرة. وما بين أوجاع ظهره وعملين يستهلكانه، يُؤمن حاجيات بيت لا تنتهي طلباته.
التوقف أمنية لا يطالها. كان عليه أن يعيش انكساراته كاملاً، يتذكر قبل أن يغفو صفعات أبيه ليعلمه الأدب، ضربات عصا أستاذه ليحفظ دروسه، السجن في الزنزانة الانفرادية أثناء خدمة الجيش الالزامية ليتعلم حب الوطن والطاعة العمياء.
حين بلغ الثلاثين لم يعد يفرح ولا يحزن، طرأت عليه تبدلات واضحة، كان قد استسلم لقدره، زاد وزنه وتخلت عنه فتاة قلبه. ارتبط بزوجة متجاوزاً عبء الوقوع في الحب، أنجب ثلاثة أطفال صبياً وابنتين يصفعهم ليعلمهم الأدب والامتثال، أما زوجه فتعودت تجهمه في وجهها، دون أن تعرف بأنه يهرب منها ومن عالمه إلى جنة يبتدعها لنفسه ليعيش في كوخ بنوافذ حمراء، يطل على غابة شاسعة برفقة جميلة لا تشبه زوجته المملة ولا تشبه حبيبته الخائنة، لا يذهب إلى وظيفة بالكاد تفي متطلبات بيته، ولا يضطر إلى أن يجوب شوارع خانقة، ولا يعكر صفو يومه أحمر شفاه زميلته السحلية، أما أسوأ ما في ذلك الحلم، فهو اضطراره لإسكات صوت المنبه والعودة الاضطرارية إلى دوامته، ففي الأحلام فقط كل شيء ساحر ومبهج وحقيقي.
رنَّ المنبه.!
لم يرن.!
يشعر بهوة عميقة في رأسه، لن يعرف إجابة لتساؤلاته إلا إذا نهض. كان يهم برفع الغطاء عنه حين دخلت زوجته بوجه متعرق شاحب وبملامح تنبئ عن كارثة.
ابتلع ريقه وسألها: خير إن شاء الله؟
قالت بصوت جزع: انهض يا رجل، اسمع الخبر يبث في كل مكان.
هب واقفاً وقد أصابته عدوى القلق. بحث عن قناة الإذاعة المحلية. تردد صوت موسيقا غريبة انقطعت فجأة ليعود صوت المذيع:
"نكرر.. السادة المستمعين يؤسفنا أن الشمس ولسبب غير معروف لم تشرق، ما استدعى إعلان حالة الطوارئ. وحرصاً منا على سلامة المواطنين ننصحهم بالبقاء في منازلهم، حتى يتم تحديد الجهة المسؤولة عن هذا الخلل الكوني. ولمعرفة معلومات أكثر يمكنكم متابعة برنامجنا التالي الذي نستضيف فيه نخبة من المبصّرين والفلكيين والباحثين والمحللين."
غمرته غِبطة لم يستطع منعها. تنفس الصعداء. رجع إلى فراشه، سوَّى الوسادة تحت رأسه، سحب الغطاءَ حتى حدود ابتسامته، واستسلم إلى النوم.
سوزان خواتمي
قاصة وكاتبة سورية