جحظت عيناها عندما رأته. هل يمكن أن يكون هو حقّاً؟ هل تراه بأمّ عينيها، أم أن حلماً يراودها؟
بدا خائفاً ترتعد فرائصه من هول المفاجأة. لم يكن يظن أنه سيرى أحداً في الطرف الآخر من النفق. بدت قامته الممشوقة تتكسّر على نفسها. تنطوي كغسيل متّسخ لتندسّ في أقرب غسّالة عابرة.
الفتاة العشرينية، في السابعة والعشرين تحديداً، متوسّطة الطول. يبدو وجهها الدائري كرغيف طازج محاطٍ بخمار رشيق أبيض مشرّب بلون ورديّ خفيف. عباءتها السوداء الكتيمة ذات الأكمام الواسعة، تنتهي بحذاء رياضيّ أبيض. تسمّرت في مكانها حين رأت المشهد. بدت وكأنّها مشلولة الحركة، تماماً، حتى أن القِدْر الذي كانت تحمله، انساب من يديها قبل أن تتمكّن من وضعه على الأرض، فانسكبت محتويات بعضه، حتى أن بعضاً منه لوّث جفنيها وهي تفرك عينيها لتتأكّد مما تراه.
حرّكت شفتيها فخرجت الحروف خالية من الهواء، لم تحدث أيّ صوت.
عيناه تتوسلان إليها كي توقف له النزيف. يسند خاصرته اليمنى بكلتا يديه والدم ينفر من تحت أصابعه.
الأفكار المتناقضة تدور في رأسها مثل نحلة محاصرة تبحث عن مخرج.
" هل يمكن أن يكون هو فعلاً. هاتان العينان الزرقاوان الوديعتان، وتلك النظرة المنكسرة، هل يمكن أن تكون للشخص نفسه الذي يلقي أوامره للقتل بدم بارد؟ هل يمكن للإنسان أن يبدّل وجهه بهذه السهولة؟ بهذه القدرة على التلوّن والانقلاب إلى النقيض؟
ما الذي ينبغي أن أفعله الان؟ هل أرشقه بهذا القدر المليء بالماء المغلي؟ هل أسعى إلى وقف نزيفه؟ هل أصرخ بملء صوتي: تعالوا خذوه. هذا هو قاتلكم. قاتل أبنائكم. هذا من يدمّر المدن ويقصف أبنيتها كي يضمن ولاءها له.
منذ ولدتُ تفتّحت عيناي على أبيه رئيساً للبلاد. شخص يحاصرني أينما ذهبت. في التلفاز. في الصحف. على واجهات المباني. في الدوائر الرسمية. في الأماكن العامة. خطاباته كانت تصيبني بالدوار ولا أخرج منها بنتيجة.
حين سمعنا بموته خيّم السكون المريب على وجه المدينة. صحونا من أثر الصدمة التي حملت شعوراً متناقضاً بين الخوف مما سيحدث، والتفاؤل بانفراج قريب؛ فوجدنا الابن يرث أباه. لم نكن نحن سوى جزءٍ من ذلك الميراث.
لماذا ينبغي أن يستمر كتم أنفاسنا؟ ما الذي فعلناه لننال كل هذا العقاب؟
منذ كنت في الخامسة وأنا أحلم أن أصبح طبيبة كي أشفي جدّي من أمراضه. جدي الذي لا يكف عن السعال بسبب تفحّم رئتيه. والآلام التي يعانيها أثناء الطعام بسبب النُكاف. كان دائم الشجار مع جدتي التي تقول له:
لن تتخلص من أمراضك إلاّ بعد أن تترك التدخين.
كان يكح، ويتصنّع رسم ابتسامة على شفتيه، وهو يدرج اللفافة، بعد أن يوزّع التبغ على ورق الشام. يبلّ طرفها بريقه قبل أن تصبح جاهزة للاشتعال:
قلت لك ألف مرة أن سبب المرض هذا القبو الذي لا تدخله الشمس، وهذا اللص (يشير إلى التلفاز حين تظهر صورة الرئيس).
لم أتمكن من دراسة الطب. ليس بسبب المجموع، بل أراد والدي أن يختصر مصروفات الدراسة وجعلني ألتحق بمدرسة التمريض:
يا أم النور دراسة الطب ست سنوات ماعدا سنوات الاختصاص. من أين سآتي بمصاريف الطب الكثيرة وأنا موظف في مصلحة البريد؟
بالرغم من أنني كنت الأولى على دفعتي، لم أتمكن من نيل منحة دراسية بسبب تعنّت جدّي:
نحن ليس من سماتنا أن نكون كالأغنام. الطلائع تدجين. والالتزام بشبيبة الثورة يفسد البنات. بلا منحة بلا بطيخ. خليهم هم يحصلون على امتيازات الحزب، ونفوز نحن في الآخرة. نيل العلامات والامتيازات عن طريق الحزب، سرقة واضحة لحقوق الآخرين.
لم أستطع أن أرسم خطوط مستقبلي. كل ما قمت به هو أنني استسلمت للظروف المحيطة بي. قبلت ما أنا عليه.
الطاقة الوحيدة التي وجدت فيها متنفّساً هي أستاذ العربي في مدرسة التمريض. كان وسيماً ولطيفاً إلى درجة أن كل بنات التمريض أحببنه. ذلك لا يهم، ما دمت فزت به أنا وحدي. عيناه لا تتحوّلان عني طوال الدرس.
لم يكد ينتهي الفصل الأول من السنة الثانية حتى وجدته جالساً أمام والديّ، ويقرؤون الفاتحة.
...
ماتزال أفكارها تتوارد تباعاً من هول الصدمة:
هل لديك القدرة على قتل عدّوك عندما تلتقيه؟
السؤال لا يتعلّق بقدرتك الماديّة على ذلك. القوّة اللازمة لفعل ذلك، تختلف عن إرادة الفعل. إنّها السمات الأخلاقيّة التي تتحكّم بردّة فعلك تجاه من كنت تحشد قواك الذهنيّة للانتقام منه.
ربما تفتعل صدفة تجمعك به، ثم تتفنّن في ابتكار أساليب جديدة للانتقام: هل تعلّقه من رقبته على عمود كهرباء، أو تعلّقه من رجليه وتتركه عرضة لنهش الكلاب الشاردة؟
هل تربطه من خصيتيه وتسحله بدراجة نارية؟
إذا كنت موقناً بأن القاتل يُقتل، فهل تلك القناعة تكفي كي تكون قادراً على تنفيذ الحكم فيه؟
الخطوة الأولى هي المهمة، حينما تقدم عليها، يصبح كل شيء بعدها سهلاً.
أوّل مرّة تواجه الجمهور، تتعثر بالارتباك والخجل؛ إن تخطّيت ذلك اللقاء بنجاح، تغدو اللقاءات التالية روتينيّة. كذلك القتل، عندما تفعلها مرّة، تغدو قادراً على تكرارها ببرود. كل حساباتك، ومخاوفك، وتوجساتك؛ تتلاشى، بعد أوّل تنفيذ.
...
أسند رأسه إلى الجدار. لم تعد ساقاه تقويان على حمله. بدأ يمسح الجدار الخشن بقميصه الأبيض وهو يهبط، تدريجيّاً، إلى أسفل، حتى استقرّ على عَجُزه.
للقصر الجمهوري أربعة أنفاق، واحد يفضي إلى طائرة النجاة. الثاني إلى "الطاحونة" حيث السجناء الخطرون. الثالث إلى غرفة العمليات السرية. أما الرابع، وهو الذي سلكه، يؤدّي إلى مجمّع صغير فيه مرآب سيارة الإنقاذ، تحيط به حديقة وجزء من مقبرة قديمة، ودار للمسنين. دُرس المجمّع بشكل يضمن تمويه متقن كي لا ينكشف الغرض من المكان.
عَبَر النفق على عجل. اختياره كان إجبارياً، بعد أن تلقى الطعنة في خاصرته، بالمقص، من محظيّته الخاصّة. لم يجد أحداً حوله. انشقّت الأرض وبلعتهم، فلا قائد للطائرة، ولا حاجة إلى تفقّد الطاحونة، ولا يوجد من يشاطره التفكير في غرفة العمليات.
المخرج الوحيد هو الولوج إلى الكراج ليستقلّ السيارة المصفّحة وينطلق إلى بيت الجبل.
د. محمد جمال طحان