الصفير المتردد في رؤوسنا


أقرأ الجُحر (لكافكا)، أستغرقُ يومين رغم أنها قصيرة، فأحتاج أياماً للتأمل بعدها لا أقرأ شيئاً مهمّاً، أتجوّل مُتمهّلا في دهاليزه الغرائبيّة، انغمس في سرده العميق وهو يصف الصفير المتردد في رأسهِ وتفكيره الدائب لتوصيف المعارك والتخبّط في احتمالاته العبثيّة ودبيب حشرات الأفكار التي تنهش ملاذه المعزول بقشرة من الطحالب عن العالم الخارجي.

أشعر بالغيرة ممن يقرأون بسرعة ويراكمون القراءات وأحياناً يستعرضون دون تأمّل وتمهّل في أعماق النصوص المُثخنة بالأفكار، فأشكُّ بمستوى فهمي وأتهم نفسي باللكاعة والخمول والغباء.

كما يثير دهشتي أولئك الذين هاجوا مع موجة الثورة ونزحوا بأواخر الشتاء موسميّاً بحثاً عن الكلأِ ومراعي الربيع الواعدة بأماكن أخرى، بعيداً عن معالف الشتاء المديد الذي غرقنا في ربقةِ زرائبهِ طيلة نصف قرن، حتى أنهم يستثيرون ذكريات بداوتي حين شاركت في طفولة بعيدة أهلي وهم يغادرون بأواخر شباط، بعد أن تخضوضر الأرضُ باللُعاع، وتأكل الدواب - الجاير- المخصص لها، ويحرصون على إبعاد القطعان عن الحقول نحو جبل سنجار لما بعد موسم الحصاد، لتعود الأغنام بعد ربيعها وتتابع تغيير وجباتها لتلتهم السِفير - القشّ - بعد حصادٍ مُجزٍ للأرباب.

النازحون المترفون الجدد يمارسون بهلوانياتهم بتبديل الضفاف والحبال في القراءة والتفسير الرغبوي وفق ميول الريح، وليس كما يستدعي التأني والحكمة، لا أدعي منها شيئاً لكني لا أصفقّ بسرعة، ولا أيأس، لا اُستَفزّ، وأتجنّب التعميم والحكم بسرعة على ظاهرة ربما تظهر لاحقاً كفقاعة عبث أو بالون اختبار، كي لا أستنزف أعصابي وأرمي كلمتي بوقتها ومكانها المناسبين قدر الإمكان.

بالأمس نتناهش دينياً وعرقياً ومذهبياً، واليوم استبدلنا خنادقنا فصارت المناطق سبّة بعينها، رغم أن الحرب بين الاستبداد والإنسان لم تتغير عبر التاريخ، كما لم تتبدّل الأدوات والرؤية والاستراتيجية والأهداف.

يجب أن نتعلم، لأننا وأعتقد أن الكثيرين لم ينتبهوا بأن الثورة والاضطرام المتراكم انفجر عفوياً دون قيادة موحدة بمشروع متكامل واضح.

لا زلنا نحبو في طور الطفولة الأولى ولم نتعلّم بعد، ربما هو غربال يُمحّص الحنطة من الزؤان، كم سيبقى في الغربال لتعود الثورة من جديد لإشراقاتها الأولى!؟

كل ما عشناه ورأيناه وألفناه كان مجرد مقدمات رواها نيابة عنّا أشخاص مجهولون تركوا بصمتهم على جدران الثورة والذاكرة بالدم، ومضوا غير هيّابين أو آسفين ونادمين، ولو عادوا لسلكوا ذات الطريق بلا تردد.

أنتمي إلى اللوحة البِكر المشرقة الأولى، ولا تهمني الألوان التي رشقوها بها لاحقاً لتلويث ما صنع الأوائل.

 

 

محمد صالح عويد

شاعر وكاتب سوري


 

Whatsapp