يروى أن الزعيم السياسي السوري فارس الخوري حين أبلغه الجنرال غورو أن فرنسا جاءت إلى سورية لحماية مسيحيي الشرق، ما كان منه إلا أن قصد الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى منبره وقال: إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله.
عمدت الدول في الماضي والحاضر إلى بث روح التفرقة الوطنية، من أيام تأسيس جيش الشرق الأدنى في عشرينيات القرن الماضي، والذي تأسس على أجساد طوائف وأقليات مختلفة، وصولاً إلى يومنا هذا والذي يحاول الشرق والغرب اللعب على هذه الورقة، تحت شماعة "حماية الأقليات" وهذا ينطبق على حالة كل بلد بعينها، في حالة استغلالية كبيرة لهم، من خلال بث روح التفرقة وضرب المشتركات، وسيادة العداء بينهم، ثم زراعة الأوهام.
"الحرب الأهلية في سوريا"المصطلح الذي سعى الإعلام الأجنبي لترسيخه في أذهان العالم أجمع، من خلال وكالاته ووسائله، بيد أن هذه التوصيفات التي ربما تعتبر وفق القوانين الأممية صحيحة، إلا أنها في الواقع لم تكن المنطلق الذي اعتمده السوريون في ثورتهم الشعبية "بكافة أطيافها" ضد طاغية عانت البلاد منه ومن أبيه، وحزب تجبروا من خلاله.
تخلص حزب البعث من الأقليات بعدما استهدفهم سابقاً كما يروي التاريخ، لتتقدم بعض الشخصيات من "الطائفة العلوية" وتتحكم في رقاب العباد، ومقدرات البلاد، ويتم من خلال ذلك ترسيم الكيان السياسي، الذي يخدم الأجندات الاحتلالية الباطنية منها والظاهرية، في سورية الجامعة والتي عبثت الأيادي لتفريق مكوناتها.
كذلك الأمر بالنسبة للطوائف الأخرى، حيث كان أبناء البلد يقولون:إننا لا نميز بين الأديان والطوائف فكلنا "سوريون"، وهذا الهدف السامي والذي يجمعنا جميعاً في بوتقة واحدة، ليس خلفه نية حقيقية نقية في الوصول إليه، والدليل أن المقصود في نهاية المطاف أننا كلنا "أسديون" وهذا ما عمد إليه الأب والابن، وما سبقهما في تمهيد حزب البعث الذي استغل لصالحهم.
لفتني أن الحزب تأسس في عام 1940م أي قبل الجلاء الفرنسي من سورية، وبقاؤه إلى اليوم بالطريقة والأسلوب الموجود فيه، ربما يجعلني أقول:إنه تأسس تحت رعاية احتلالية، وإنه لا يعيش إلى تحت ظلال الاحتلالات المتعددة، وهذا ما دفع الأسد الابن للجوء إليهم، جالباً إياهم لأرضنا بائعاً لثرواتها وخيراتها، مدمراً لجيشها (الذي من المفترض أن يكون مأمناً للسوريين) لا قاتلاً لهم، ومغيراً لديمغرافيتها.
في اجتماع لمجلس الأمن كانت قد طلبته سورية، من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها،جلس الزعيم الخوري،"ممثل سورية في المجلس آنذاك"،في مقعد النائب الفرنسي، فلما قدم النائب الفرنسي وجد فارس الخوري جالساً في المقعد المخصص له.
أثار هذا الموقف غضبه وطلب من رئيس المجلس أن يأمر فارس الخوري بإخلاء المقعد بالمقعد المخصص لسورية، وهنا كان رد فارس الخوري: (لقد جلستُ على مقعدك دقائق معدودة ولم تستحمل ذلك،فما بالك وأنتم تجثمون على صدورنا منذ خمس وعشرين سنة).
ولا يخفى الدور الأميركي والروسي والإيراني والإسرائيلي وغيرهم، الذي يلعبوه في فرض ورقة الأقليات في سورية، من خلال الدعم الذي يقدم لهم، والأماني التي يمنونهم بها، وذلك لضمان احتلالهملسورية لا لحماية الأقليات كما يدعون زوراً وبهتاناً، والأمثلة في الدول الأخرى خير دليل على حرق ورقتهم في اللحظة الأخيرة كما حصل لأكراد العراق في اللحظة الأخيرة، وهذا المسار يعزز فكرة الانتماء لغير الوطن.
يرى البعض أن إطلاق مصطلح "الأقليات" لم يكن موجوداً سابقاً، ولكن مع التطورات السياسية التي عصفت في البلاد، في فترة ما قبل الاستقلال وما بعده، جعلت الدول الأجنبية تعزز هذا اللفظ مدعين حمايتهم، ليبقى السؤال المتكرر هل بالفعل يحتاج المواطن إلى حماية في دولته!
أقوام متعددة قدمت إلى سورية، في رحلات عديدة، راسمة أطيافًا وطوائفاً متنوعة، تلاقحت وتنامت على رقعتها، الأغلبية "العربية السنية" تتصدر غالبية مواطنيها، متجاوزة بذلك التسعين بالمئة من سكانها، ونسب متفاوتة في باقي الطوائف والإثنيات الأخرى، هذا الواقع الذي لم يرق للمحتلين، فضربوا وطناً بأكمله، طمعاً وخشية، من أن تكون المواطنة هي الأساس القائم بين الشعب الواحد، وهذا يشكل من منظروهم خطراً عليهم.
التاريخ السياسي لسورية، يجعلنا نستنبط دور الأيادي في تشكيل التركيبة التي نراها اليوم أمام ناظرينا، ولن تكون آخرها ملف"الدستور" الآن، وتوزع الأدوار من النيابة إلى الرئاسة في قادم الأيام.
فاتح حبابة
كاتب وإعلامي سوري