في تسعينات القرن الماضي، حاول النظام السوري حلّ مشكلة المواصلات بزيادة عدد السرافيس، لكنه وقع في مشكلة أعمق، وهي زحمة الخطوط وعرقلة السير، لم تكن الشوارع ولا أنظمة المرور مهيأة لهذه الزيادة. كما سبب هدرًا كبيرًا للمال حين فتح الاستيراد لسيارات سرفيس جديدة، وبالمقابل خسر الكثيرون قيمة سياراتهم القديمة التي كان سعرها أضعاف قيمتها الحقيقية، وكل ذلك بسبب التضييق وفشل الإدارة والتخطيط.
صدر حديثًا للصديق الدكتور زكريا حسين ملاحفجي ورقيًا كتاب مميّز في علم الإدارة والتخطيط في طبعة خاصة، وهو متوفر بنسخة الكترونية لمن يهتم، وأنصح كل طالب جامعي، وخاصة طلاب العلوم الإدارية والسياسية في التزود بنسخة من هذا الكتاب، لأنه سهل ممتنع، تم ايجاز المواضيع دون اخلال في متنها. ويظهر لنا دور الإدارة والتخطيط في عملية النهوض وتجاوز الفشل.
لقد اختار الدكتور زكريا تقسيم كتابه إلى خمسة أبواب، استهلها بمقدمة ووضع لها خاتمة موجزة. جاء في المقدمة عرضٌ لمحتويات كتابه، وللغاية منه، وبيان لأهمية الإدارة كونها عنصراً حاسماً وأساسياً في النجاح، حيث ربط النجاح بتحقيق إدارة ناجحة والتي يعرّفها على أنّها: علم وفن ومهارة وصنعة. كما أشار إلى أهمية المعرفة وضرورة ربطها مع التخطيط، ولم يهمل الزمن حيث خصص له فصلًا، وبين في المقدمة بأن العوامل الرئيسة لنجاح دول وفشل أخرى هي ثلاثة تتمثل في: قدرة على التخطيط المحكم، إدارة جيدة، وتطوير مستمر مبني على المعرفة والخبرة التراكمية. ومن دون إهمال العوامل الأخرى التي يراها ثانوية مثل عامل الجغرافيا أو الثقافة، ويقدم أمثلة قصيرة على مدن أو دول في ذات المكان بعضها نجح وبعضها فشل للعوامل الثلاث الذي ذكرها.
بين الكاتب في الباب الأول أهمية الإدارة وكونها الوسيلة المهمة لتسيير الجماعة ثم عرف الإدارة وبين علاقتها مع العلوم الأخرى سياسية واقتصادية واجتماعية.
ووضح الكاتب في الباب الثاني أنواع التخطيط وأشار إلى ثلاثة أنواع منه: الاستراتيجي والتكتيكي والتشغيلي، وبين الفرق بين هذه الأنواع ودور كل نوع، كما وضح الفرق بين الخطة والتخطيط، فالخطة هي عملية كاملة تتضمن الموارد والإمكانيات والعمل معا لاتخاذ القرار، وتحديد الأهداف والمسارات التي ينبغي اتخاذها، والخطوات العملية للخطة الاستراتيجية، بينما يرى التخطيط هو حالة مستمرة، وتحديد اتجاه ما في مرحلة مقبلة، ويوضح عوامل نجاحها ومرتكزاتها وتحدياتها.
ثم انتقل إلى توضيح فكرة الجودة الشاملة وتحدث عن الامتياز الإداري في الباب الثالث من كتابه، وشرح أسباب السعي لتحقيقها لسد النقص والعجز، ورفع الكفاءة ومستوى الوعي، وقدم لذلك بأمثلة عملية مفيدة.
ثم خصص مبحثًا كاملًا عن إدارة الوقت في الباب الرابع من كتابه، وبين ماذا يعني مصطلح إدارة الوقت، وما هي خصائص الوقت وأنواعه؟ وشرح بإسهاب عن الوقت الإبداعي الذي يتم خلاله الدراسة والبحث وتوليد الأفكار، ثم تطرق للوقت التحضيري الذي يتم خلاله جمع المصادر والتجهيز ثم الوقت الانتاجي وهو الذي فيه يتم التطبيق والإنجاز.
وبحث في الباب الخامس عن فن إدارة الاجتماعات وكيف تكون مديرًا نجاحًا، وبيّن الفرق بين القائد والمدير، وشرح بشكل جذّاب وسهل كيف يتم الاجتماع الناجح ومتطلبات نجاحه قبل الاجتماع وأثنائه وما بعد الاجتماع.
ولعل من المواضيع المميَزة جدًّا للكتاب موضوع التفويض، ومسألة التفويض مهمة جدًا، ربما تعدّ إحدى معضلاتنا المتأصلة فينا، ومن أمراضنا المزمنة، بسبب سيطرة الغطرسة والقمع وهيمنتهما منذ أكثر من نصف قرن، حيث انعدام الثقة أو القضاء على المعنويات، والخوف من النشط والمبدع، وهي حالة مرضية تشيع في كافة شرائح الوسط السوري. لذلك كان الكاتب موفقًا في الإشارة إلى كيف يتعلم المرء التفويض، والتي تعني نقل صلاحيات سلطة من مستوى أعلى إلى مستوى أدنى، ليتفرغ الأعلى لمسؤوليات أهم. وبين الكاتب أن من ثمار التفويض تحسين القدرة وتوفير الوقت، وإنجاز أفضل وسعادة أكثر. وطبعًا وضح بتفصيل مبسط شروط التفويض لمن وكيف ولماذا ومن أجل ماذا؟ ويعتبر لو طبق قفزة في الوضع السوري على كافة مستوياته وشرائحه.
جاءت الخاتمة مقتضبة مختصرة تشير إلى أهمية الإدارة ودورها نجاح أي مؤسسة أياً كان نوعها ونمطها، وأنه دون التخطيط والتنظيم والأوامر والتوظيف والرقابة ومعالجة المشاكل لا يمكن الحصول على النجاح.
أختم بقصة طريفة معروفة عن الكاتب العالمي جورج برنارد شو علها توضح الحالة المرضية التي نعانيها، فقد كان برنارد شو أصلعًا كثيف اللحية وحين سؤاله عن سبب ذلك قال: "غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع". سوء التخطيط والإدارة الفاشلة من أمراضنا المستعصية نشرها نظام الطغيان، نأمل من الجيل الجديد تجاوزها وأن يكون هذا الكتاب مرجعًا مساهمًا في ذلك.
كتاب: أساسيات الإدارة الناجحة، تأليف: د. زكريا ملاحفجي.
طبعة خاصة 2020
علاء الدين حسو
كاتب وإعلامي سوري