لبناء آيا صوفيا رمزية تاريخية وسياسية ودينية كبرى لدى تركيا وتحديداً في مدينة اسطنبول كونها تحفة فنية معمارية فريدة وأهم الآثار الموجودة في المدينة. وما بين كتدرائية ومتحف ومسجد ومع تصاعد الجدل والتصريحات بتحويلها إلى مسجد حسمت المحكمة العليا في تركيا قرارها وأصدرت حكماً تاريخياً يقضي بتحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد مستندةً إلى سند ملكية أيا صوفيا لدى محمد الفاتح ووقع بعدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسوماً يقضي بفتح أيا صوفيا أمام العبادة كمسجد في 24 من يوليو / تموز
وجاءت تصريحات اردوغان بعد توقيعه القرار رداً على الانتقادات الواسعة التي طالت بلاده من هذا القرار وأكد بأنه شأن داخلي لا علاقة لأحد به وبأن هذا القرار هو حق للأتراك فقط وهو استجاب لمطالب شعبه في تحويل أيا صوفيا إلى مسجد موضحاً أنه لم يكترث لما يقوله الآخرون.
وللعودة للتاريخ نستذكر أهم المحطات بتحويل أيا صوفيا إلى مسجد. ففي عام 532 م أمر الامبراطور البيزنطي جستيان الأول ببناء كنيسة في القسطنطينية استغرق بناءها خمس سنوات واختار الامبراطور تسميتها أيا صوفيا وتعني الحكمة الإلهية في اللغة اليونانية استخدم في بنائها الرخام والحجارة الملونة والفسيفساء من الذهب والفضة.
استمرت بعدها أيا صوفيا مركزاً للكنيسة الارثوذكسية الشرقية لأكثر من 900 عام وبعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453 حولت من كنيسة إلى مسجد وخلال السنوات أضيفت عليها بعض التعديلات لتأخذ الطابع الإسلامي منها المنبر والمحراب والمآذن الأربعة.
استمرت بعدها أيا صوفيا مسجداً حتى قيام مصطفى كمال أتاتورك بإصدار قانون بتحويل المسجد إلى متحف. دخلت بعدها أيا صوفيا كمتحف على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة وأصبحت من أهم المعالم في العالم عامةً وتركيا خاصةً فقدرت أعداد السياح التي يزورها في العام الواحد ما يقارب 4 ملايين سائحًا.
ومنذ سنوات مضت رُفعت مطالب من قبل إسلاميين ودعاة في تركيا بتحويل وإرجاع أيا صوفيا إلى مسجد مستندين إلى وثائق تاريخية تؤكد شراء السلطان محمد الفاتح مبنى أيا صوفيا من القساوسة قبل تحويله إلى مسجد. رافق قرار المحكمة العليا والرئيس التركي عاصفة من الانتقادات الغربية والعربية وانقسم العالم بين مؤيد للفكرة ومعارض لها فاعترض العرب المسلمون ممن يحملون الكيد السياسي لتركيا على قرار تحويل أيا صوفيا إلى مسجد مستخدمين فيها ورقة الدين والحرص على احترام مشاعر المسيحيين مستندين إلى شعائر الإسلام التي تحترم جميع دور العبادات غير المسلمة ضاربين مثالاً بأن الخليفة عمر بن الخطاب لم يقبل الصلاة في كنيسة عندما فتح بيت المقدس لعدم تحويلها مستقبلاً إلى جامع.
واعتبر البعض الآخر بأنه انجاز تاريخي مستذكرين فيها الانجازات العظيمة لمحمد الفاتح ذكروا بأن الاسبان أنفسهم عندما سقطت الأندلس حولت كل جوامعها إلى كنائس فأين المعترضين من تحويل الجوامع إلى كنائس ولو كان اضطهاداً دينياً كما زعم البعض لما سمحت تركيا ببناء دور العبادة للديانات المسيحية واليهودية وسمحت لهم بإقامة شعائرهم مع كامل الحرية لكن الأكثر غرابة كان موقف الدول العربية التي تسعى للنيل من هيبة تركيا لكيدها السياسي منها مثل مصر والإمارات ما جعل منهم متناسين الدور العظيم الذي يقضي بتحويل أيا صوفيا إلى مسجد وأبدوا موقفاً سيئاً عبر وسائل الإعلام الخاصة بهم وتصريح مفتي الديار المصرية شوقي علام بأن تحويل تركيا لكنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد لا يجوز شرعًا لأنها باطلة وتعتبر بذلك أرضاً مغتصبة واتهامات طالت القيادة التركية والحزب الحاكم بتحسين صورته من أجل كسب مزيد من الأصوات في الانتخابات المقبلة ومع هذا القرار أبدت دول غربية أيضاً اعتراضها الشديد وأعاد القانون للغرب ذاكرته للعودة إلى الهزيمة البيزنطية أمام الدولة العثمانية التي سيطرت بعدها على أجزاء واسعة من أوربا ودعت الدول الغربية في البداية تركيا إلى إلغاء القانون لأنه يؤجج مشاعر الغضب والطائفية لدى المسيحيين.
تجاهل الجميع أن هذا القرار سيادي وشأن داخلي تركي أولاً وأخيراً وبأن الحكومة التركية أعادت مسجد أيا صوفيا كما كان سابقاً طيلة خمس قرون مضت بل تعاملت معه بأنه متحف وليس كنيسة وبأن الشعب التركي هو الوحيد الذي يستطيع أن يقرر في هذه الأمور وعلى الذين نادوا بعدم تحويل أيا صوفيا إلى مسجد أن ينادوا بعودة كنائس الأندلس إلى مساجد.
يأتي قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الذكرى الرابعة للانقلاب العسكري الذي شنته قوى معادية للدولة التركية، وجاء هذا القرار في نفس توقيت ذكرى الانقلاب برسالة موجهة واضحة لدول العالم بأن تركيا استطاعت رغم عداوة بعض الدول لها ورغم حياكة المؤامرات ضدها بالنهوض بالدولة التركية مستمدين ذلك من الشعب التركي الذي أثبت للعالم مدى فهمه ووعيه أثناء الانقلاب وبأن السيادة التركية هي شأن داخلي تركي فقط لا يحق لأحد التدخل فيه أولاً وأخيراً.
آلاء العابد
كاتبة سورية