لم يقبل أن يكتب التاريخ أن الفرنسيين دخلوا سورية دون مقاومة من الشعب، ومع أنه يعرف النتيجة لاختلال ميزان القوى بين القوة الغازية والشعب الأعزل، إلا أنه أقدم بكل شجاعة وبسالة على التصدي للمحتل الغادر الذي أخل منذ اللحظة الأولى بشروط الانتداب التي لا تتيح له احتلال المدن وحكم البلاد الواقعة تحت الانتداب بشكل مباشر.
تبدأ القصة عندما أرسل الجنرال الفرنسي غورو القابع في بيروت والمكلف بتنفيذ الانتداب على جزء من سورية الطبيعية وهما لبنان وسورية، بموجب اتفاقية سايكس ــــــ بيكو بين فرنسا وبريطانيا، أرسل مع مستشار فيصل الملازم أول نوري السعيد إنذاره إلى فيصل الذي يتضمن خمس طلبات وهي على الشكل التالي:
1- قبول الانتداب الفرنسي على سورية.2. قبول التعامل بالليرة السورية الورقية التي أصدرها مصرف سورية ولبنان في فرنسا، ووقف التعامل بالذهب.3. تسليم الخط الحديدي من رياق الى حمص وحماة وحلب الى القوات الفرنسية.4. حل الجيش السوري المشكل حديثًا ووقف عمليات التجنيد الاجباري والتسليح.5. ملاحقة ومعاقبة المسلحين الذين تورطوا بأعمال عدائية ضد فرنسا.
درست الحكومة السورية برئاسة الملك فيصل طلبات غورو وقبلتها وأرسلت ردًا بذلك، رغم اعتراض وزير الحربية شهيدنا البطل الفريق أول يوسف العظمة بشدة، والذي كان قد شكل جيشًا قوامه عشرة آلاف مقاتل، وألقى كلمة ختمها بقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم
وكان قبول فيصل وحكومته بناء على نصيحة الجنرال اللنبي الإنكليزي الذي دخل سورية مع فيصل بعد خروج الأتراك منها، وذلك لعدم إعطاء حجة لغورو باحتلال دمشق، ولأن ميزان القوى مختل لصالح الفرنسيين.
ومع ذلك ورغم إرسال الرد بالقبول تحجج الجنرال الفرنسي بأن الرد لم يصل بالموعد المحدد، وأرسل حملته باتجاه دمشق عن طريق مجدل عنجر التي انسحب منها الجيش السوري بأوامر من فيصل، ووصلت الحملة بقيادة الجنرال غوابيه ممثلاً عن غورو إلى ميسلون التي تبعد عن دمشق مسافة 28 كم باتجاه بيروت، وقبل ذلك قامت المظاهرات الرافضة لقبول حكومة فيصل الإنذار وهاجم المتظاهرون بعض الأماكن في دمشق واستولوا على الأسلحة والذخائر، فتصدت لهم الشرطة وقتل منهم حسب المؤرخ محمد كرد علي أكثر من مئتي متظاهر، وعمت الفوضى والانفلات الأمني بينما كان وزير الحربية يحاول جمع قوة تواجه المحتل، واستطاع جمع حوالى 3000 عسكري من بقايا الجيش المنحل وعدد من المتطوعين بأسلحة خفيفة وذخائر قليلة، ليحفظ لتاريخ سورية العسكري هيبته ووقاره كما قال، ولا يسمح أن يكتب التاريخ أن سورية في عهده سلمت للمحتل دون قتال.
كانت الحملة الفرنسية تتألف من 9000 عسكري معززين بالدبابات والمدفعية ومحميين من الطائرات التي كانت ترمي القنابل على المقاتلين والمنشورات على المدن تقول فيها أنها ليست دولة استعمار بل انتداب لن يتدخل في أمور الحكم الداخلية. بدأت المعركة الساعة التاسعة صباحًا بعد أن زرع المقاتلون السوريون الألغام في طريق القوة الفرنسية، ليتضح بعد ذلك أن المرتزقة الذين أتوا مع فيصل من الحجاز والبادية السورية أبطلوا هذه الالغام بفعل خياني وكانوا يستهدفون الجيش من ورائه فقتلوا الكثير من عناصره وساهموا بسرعة انتهاء المعركة لصالح الفرنسيين، وحسب رواية محمد كرد على يمكن أن يكون الشهيد يوسف العظمة قد قتل بأيدي هؤلاء الخونة.
الشهيد يوسف العظمة هو أول وزير دفاع عربي يستشهد في المعركة دفاعًا عن وطنه ضد الغزاة، ولد في 1884 واستشهد بتاريخ 24 تموز 1920 قضى منها عامان كوزير دفاع برتبة فريق أول في حكومة الملك فيصل الذي توجه الانكليز ملكًا على سورية كجائزة ترضية عن وعدهم لوالده بحكم بلاد العرب والذي خدعوه باتفاق سايكس بيكو باحتلال وتقاسم بلاد العرب.
كان الشهيد ضابطًا في الجيش العثماني حتى عام 1916متخرجًا من الأكاديمية العسكرية العثمانية.
خلال الحرب العالمية الأولى كان رئيسًا لأركان حرب الفرقة الخامسة والعشرين في البلقان وفي بلغاريا ورومانيا والنمسا. استقال من الجيش العثماني وذهب إلى دمشق ليلتحق بالقوات العربية التي دخلت دمشق برفقة الأمير فيصل بعد عام 1916. فأصبح في البداية مرافقًا عسكريًا للأمير، وأصبح وزيرًا للدفاع عندما توج ملكاً.
له ابنة وحيدة اسمها ليلى وأصبح بيته في دمشق متحفًا. رحم الله الشهيد، وسيظل نبراسًا يضيء للأجيال القادمة طريق العز والفخار، وليخسأ الانهزاميون الذين فرطوا بحقوق الأمة وجلبوا لها العار وخانوها مع أعدائها حفاظًا على عروشهم وكراسيهم ولم يتعظوا بالحكمة القائلة لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
محمد عمر كرداس
كاتب سوري