للوهلة الأولى هي أرقام وأعداد مجردة ولن يتبادر إلى ذهن من يسمعها سوى الماديات. من الممكن أن تكون مساحات لأراضي أو جداول بورصة تتحدث عن أسعار قد تكون براميل نفط أو كيلو غرامات من الذهب والفضة أشد البعيدين عن الاقتصاد ربما يظنها جدول لإحصاء عدد سكان مدينة أو دولة ما ولن يخطر ببال أحد غير ذلك فالأرقام مرتبطة بالتجريد في الرياضات وهي لوحدها لا تعني شيئاً ولا قيمة لها إن لم يضف شرح بجانبها يتحدث عن ماهيتها. كذلك لن يخطر لأحد لغة الأرقام ومعانيها التي يتحدث عنها الروحانيون لأن من سمع بها أو يتقنها يعدون على أصابع اليد. أما أن تكون هذه الأعداد هي صور لجزء من ضحايا مجزرة ارتكبتها ولازالت ترتكبها الأجهزة الأمنية السورية فهذا هو غير المعقول والمتوقع وهو وصمة عار على جبين العالم الذي لايزال يعترف بوجود هكذا نظام وكل الإجراءات التي اتخذها بحقه لاتزال خجولة ولم تصل إلى جزء مما يطمح إليه السوريون. كيف تحول البشر إلى أعداد؟ من الذي فعل هذا؟ وما تعنيه هذه الأعداد للسوريين؟ ثم كيف تحولت الأعداد من مجردة إلى محسوسة وذات معنى إنساني؟
لعل الإجابة على هذه الأسئلة تعيدنا إلى ما قبل الثورة في سورية عام 2011م وكيف تعامل النظام السوري مع معارضيه منذ زمن بعيد بلغة الأرقام فالسجناء مجرد أرقام وأعداد بدون أسماء يعيشون ويموتون هكذا هم رقم أو عدد مجرد لا قيمة له في دوائر الأمن. ولا سجون النظام في دولة بقيت تحت سلطة قانون اﻷحكام العرفية وتحت سلطة الطوارئ منذ عام 1963م حتى عام 2011م ليستبدل بقانون الإرهاب الأسوأ سمعة.
ففي التاريخ السوري الحديث وخاصة منذ ثمانينات القرن الماضي عشرات آلاف الأرقام والأعداد من البشر الذين فقدوا أو ماتوا وبقوا مجرد أعداد غير دقيقة ولا أحد يعرف عنها شيئاً ونقول لعل العالم لم ينس مجازر سجن تدمر سيء الصيت أو مدينة حماة التي أبيد جزء من سكانها وتم تجريف أحياء كاملة منها عام 1982م تحت سمع ونظر العالم لتتكرر في سجن صيدنايا الذي مايزال قسم منه يسمى بالأحمر نسبة إلى لون الدماء التي صبغت أرضه وجدرانه هذا غير المجازر الصغيرة هنا وهناك في هذه القرية أو تلك التي تم إخفاؤها عن العالم وظلت أرقام وأعداد يتباهى النظام بأنه قضى عليها ويتسابق من نفذوها على استلام العطايا والهدايا بتسلق المناصب على سلم دولة الإجرام في سورية والتي تسمى مجازاً دولة .
لقد استمر النظام في استخدام لغة الأرقام مع معارضيه السياسيين حتى بعد عام 2011م لأنه لا يتقن غيرها وقد طورها لتصبح لغة فروعه الأمنية وليست للسجون فقط ولتتسابق الفروع في أرقامها وأعدادها لأن إثبات الولاء والتقرب يكون بزيادة هذه الأعداد على حساب الشعب المسلوب الإرادة والمنتهكة جميع حقوقه إلا أن النظام لم يظن أن ما بعد عام 2011م ليس كما قبلها وأن تقنيات اليوم ليست تقنيات الأمس ففي عصر الرقميات وفي ظل تنافس أجهزته وإمعانها بالقتل والتعذيب والتنكيل بالمعتقلين الذين يموتون تحت آلته القمعية فقد تحولت هذه الأجهزة إلى توثيقها بصور لم يكن النظام يقوم بها في السابق ربما بسبب عدم وجود التقنيات حينذاك أو لأن من يقومون بهذه الأعمال اليوم يريدون توثيقها ليستخدموها بزيادة حظوظهم في التقرب من رأس النظام مثبتين تفانيهم وتفننهم في قتل أبناء الشعب حتى ينالوا رضا المجرم الأول .
إلا أن هذا الأسلوب الجديد في توثيق التعذيب والقتل للضحايا انقلب وبالاً على النظام عندما هرب أحد من يقومون بالتوثيق وهو قيصراً حاملاً معه كرت ذاكرة صغير يحمل عشرات آلاف الصور للتعذيب والموت تحمل أعداداً أصبحت ناطقة ليسربها إلى العالم الذي صدم من هولها ولكنه بقي كما عهده السوريون صامتاً متفرجاً مداناً يحمل عار خيبته في نصرتهم رغم إصدار أمريكا لقانون قيصر تيمناً باسم ذلك المصور إلا أنه لايزال أقل من تطلعات الشعب السوري وطموحاته في كشف بقية الأعداد التي غيبت منذ ثمانينات القرن الماضي ولم تغلق ملفاتها حتى تاريخه مع ما يترتب على تلك الملفات من قضايا تتعلق بأهلهم وعوائلهم التي ماتزال تنتظر إغلاقها مع أن جميع تلك العوائل متيقنة من أن أبناءها لم يعد لهم وجود في الدنيا .
تحولت الصور التي حملها قيصر إلى دليل ﻹدانة النظام وإجرامه وبنفس الوقت أغلقت ملفات كان كثيراً من أهلها يحدوهم أمل بأن أبناءهم مازالوا على قيد الحياة ليجدوا صورهم بين صور قيصر تحت رقم أو عدد ليصبح هذا العدد ليس مجرداً كما هي الرياضيات بل قيمة معنوية إنسانية سيحفظها أهلها رغم أنها مأساوية وقد حملت الموت معها لبعض من شاهدوا صور أبنائهم بينها كما حدث لذلك الرجل الذي وجد صورة ابنه الوحيد سيحفظونها لأنها تعنيهم وتثبت لهم ما حدث لابنهم أو بنتهم، لأبوهم أو ﻷمهم، لأخوهم أو أختهم في سجون هذا النظام المجرم هذه الوثيقة التي لم تكن موجودة من قبل لأن النظام كان يطمسها فقد كانت حكايا إجرامه تنقل شفاهًا ولكن من رأى ليس كمن سمع فكل الأحاديث الشفهية السابقة لا تساوي شيئاً أمام صورة من الصور التي رأيناها والتي استقبل كثير من أصحابها الموت، بابتسامة رغم هول ما على جسده من آثار التعذيب فهو ربما يقول لنا عبر هذه الابتسامة بأنه يسخر من جلاديه ويقول لنفسه سأتخلص منكم بالموت لأذهب هناك إلى حيث العدالة بعيداً عن الأرض عند قاضي السماء .
عشرات آلاف الصور غيض من فيض نقلها قيصر واحد من قياصرة آخرون مازالوا يستمتعون كما الجلادين بالتقاطها صور تلخص فترة زمنية قصيرة ما بين عامي 2011م و2013م عندما انشق قيصر وهرب حاملاً لها فكم من الصور التي ماتزال باقية في عهدة القياصرة الآخرين، وكم نحتاج إلى كشفها لتكون وصمة عار في جبين العالم على هذه الأرض لأننا نعرف أنها موثقة هناك في السماء.
صفا عبد الترك
كاتبة سورية