الإسلام والتخلف 


يحاول الكثير من العَلمانيين وبعض " المثقفين " وغيرهم من الكتاب والإعلاميين التابعين لجهات تخشى من نهوض المارد الإسلامي من جديد واستعادته للدور الحضاري الذي افتقده لفترات طويلة الربط بين التخلف الذي يهيمن على منطقتنا – علميًا وتكنولوجيًا – وبين الإسلام كمرجعية أساسية لشعوب المنطقة ومكون أساسي للعقل الجمعي والعاطفة الاجتماعية لتلك الشعوب فيتكلمون باستمرار عن الدول الإسلامية المتخلفة، مستشهدين بالتجربة الكنسية في الغرب والتي كان تجاوزها بوابة الدخول إلى مرحلة جديدة من الحريات والعدالة وتهيئة بيئة مناسبة للإبداع التكنولوجي والتقدم العلمي، متجاهلين – عن علم أو دون علم – الفوارق البنيوية العميقة بين علاقة الدين بالمجتمع والثقافة والسياسة في الغرب والشرق والتي أوضحتها في مقالة سابقة بعنوان ( قص ولصق ) تغني قراءتها عن إعادة التوضيح . سأحاول في هذه المقالة توضيح التدليس والخداع الممارس في محاولة إيجاد رابط – في اللاوعي الجمعي – بين التخلف والإسلام، مع التأكيد ابتداء أن الكثير من المفكرين والمثقفين المنصفين في عالمنا العربي وفي الغرب أوضحوا أهمية الإسلام كمحرك أساسي لطاقات هذه الأمة وباعث مهم لنهضتها المحتملة وممر إجباري للعبور بها إلى صدارة الحضارة الإنسانية من جديد لما يمتلكه من خصائص ذاتية وبنية متماسكة ومرنة تجعله قادرًا على التماهي مع المستجدات والانسجام مع المتغيرات دون أن يفقد ملامح شخصيته، وتجعل مقارنته بالتجربة الغربية بعيدة جدًا عن الواقع والموضوعية .

لقد أوضح الكثير من المفكرين المعاصرين من أمثال مالك بن نبي ومحمد عابد الجابري وعلي عزت بيجوفيتش وسواهم عبر مقالات ومحاضرات وكتب أهمية الإسلام كمحرك لطاقات شعوب هذه المنطقة ومحفز لنهضتها عبر استقراءهم للتاريخ وتشريحهم الدقيق للبنية الثقافية والاجتماعية لمجتمعاتنا وهذا وحده كاف للإجابة عن سؤال المقالة لدى من يقرأ ويحلل وينظر بعين المحب المنصف لا بعين المتربص الحاقد. لكن الواقع البائس – حقوقيًا وسياسيًا وعلميًا وتكنولوجيًا – لمعظم الدول " الإسلامية " يلقي بظلاله دوما على الفكر والثقافة ويفرض نفسه على المشهد الذي يعاينه معظم الناس ليوجد في اللاوعي الجمعي رابطًا بين كونها متخلفة وكونها إسلامية. هذا الواقع المتردي هو الدليل الذي يستخدمه المغرضون لتكريس الرابط بين كونها متخلفة وكونها إسلامية. من أجل ذلك أردت أن أشير إلى نقطة مهمة ربما تزيل هذا اللبس وتوضح المسألة.

منذ بداية تشكيل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بقيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا فإن الفترة الوحيدة التي مثلت نموذجًا كاملًا لنظام الحكم السياسي المرتكز على قيم الإسلام السياسية هي فترة حكم الرسول ومعظم فترة حكم الخلفاء الراشدين من بعده. بمعنى أن تلك الفترة كانت القيادة الدينية هي ذاتها القيادة السياسية للدولة، والقوانين التي يدار بها الحكم والقضاء هي القوانين المستمدة من عمق القيم السياسية والحقوقية للإسلام. بمعنى أدق كان الإسلام هو الذي يحكم وكانت الدولة إسلامية بالمعنى العميق للكلمة. أما بعد ذلك فقد تشكلت أنظمة للحكم تفاوتت في درجة القرب – كفترة حكم عمر بن عبد العزيز ونور الدين الزنكي – والبعد – والأمثلة أكثر من الحاجة لتعدادها – من الصورة النموذجية للنظام السياسي الإسلامي، وصلت أحيانًا إلى درجة العداء والتربص لكل ما هو إسلامي كبعض النماذج المعاصرة. المهم أن أيًا من تلك الأنظمة التالية لفترة الخلفاء الراشدين لا يمكن النظر إليها كممثل كامل للنظام الإسلامي ومجسد لقيمه السياسية (الشورى والعدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي ومحاربة الفساد والأخذ على يد الظالم ومنع الغلول والرشوة والمرجعية الإسلامية في القانون ومنع تداول السلطة عبر التوريث ومنع الإكراه في الدين ومنع الاحتجاب عن الرعية ومزج الأخلاق بالسياسة.. الخ) وإن مرت بعض الفترات التي اقتربت كثيرًا من النموذج الإسلامي لكنها كانت قصيرة وأمكن الالتفاف عليها واجهاضها. 

وقد وصلنا إلى زمان أصبحت فيه معظم الدول " الإسلامية " تحكم بعيدًا عن قيم الإسلام، وتتحكم بها طبقة سياسية لا تؤمن بالمرجعية الإسلامية وتنظر للدين كأداة للسيطرة أو كخصم يجب احتواءه أو القضاء عليه.

لذلك بات من المهم جدًا عندما نسمع مصطلح الدول الإسلامية أن يتبادر إلى الذهن مباشرة المعنى الصحيح لهذا المصطلح، وهو أن أكثرية الشعب مسلمة وأن الثقافة العامة والوعي الجمعي والقيم الاجتماعية مستمدة في معظمها من المرجعية الإسلامية وليس معناه أن القوانين والقيم السياسية إسلامية. أي أن هذه الدول هي إسلامية ثقافيًا واجتماعيًا ووجدانيًا ولكن ليس سياسيًا ودستوريًا وقانونيًا. فمن الاستحالة أن يجتمع الاستبداد والظلم الممنهج والفساد والتخلف مع الإسلام السياسي دون أن يقصي أحدهما الآخر.

ولأن السياسة هي التي تكتب تاريخ الأمم وترسم مسار نهضتها أو نكستها وتقرر مصير شعوبها، ولأن معظم الطبقة السياسية في بلادنا المسماة " إسلامية " هي طبقة فاسدة وانتهازية ووظيفية تعمل لصالح – أو تخاف من – حكومات غربية تعتبر الإسلام عدوًا استراتيجيا لها، ولأن العلاقة بين الطبقة السياسية المستبدة والإسلام الحركي الفاعل الواعي غالبًا متوترة لأن من طبيعة الإسلام وبنيته الفكرية أن يتناقض مع الاستبداد والفساد والظلم والطغيان. من أجل كل ذلك فإن واحدًا من الأهداف الاستراتيجية للسياسات المستبدة في بلادنا إخماد صوت الإسلام الحركي الواعي المنظم الطامح للنهوض بأمته واستقلالها وتقدمها وتفكيك مؤسساته وشيطنتها واستبدالها بإسلام الدروشة والموالد والرقص والخرافات والخنوع للاستبداد.

ومن أجل ذلك أيضًا فإن الربط بين التخلف في الدول الإسلامية وبين الإسلام من قبل بعض المثقفين هو ربط ظالم وغير منصف وربما مقصود.. فدولنا إسلامية ثقافيًا واجتماعيًا، أما سياسيًا فهي غير إسلامية وأحيانًا عدوة للإسلام. وهذا لا يعني إعفاء المجتمع من دوره في القضاء على التخلف ومحاصرته، لكن الدور الاجتماعي لا بد له من حاضنة سياسية وقانونية تتيح له التحرك المنظم لعملية النهضة، الأمر الذي يعتبر خطًا أحمرًا في الدول المستبدة التي تحرص على أن يتم أي تحرك تحت العباءة الأمنية والسياسية وضمن الخط المرسوم من قبل ذات الطبقة السياسية المغرقة في الاستبداد والطغيان والتي تدرك أن قيم الإسلام السياسية تتناقض مع وجودها واستقرارها واستمرارها.

  إن التقدم السريع والمبهر الذي حققته الدول التي وصل فيها الإسلام الواعي الحركي الهادف إلى موقع القرار السياسي – كتركيا وماليزيا – والتي أنجزت قفزات كبيرة وبسرعة مذهلة على سلم التقدم والنهضة والعدالة، هو دليل واضح على التناقض الوجودي بين الإسلام الواعي والتخلف، ونموذج عملي لقدرة الإسلام على تطوير المجتمع وتفجير طاقات أبنائه للنهضة ببلدهم والرقي بأمتهم عاليًا على سلم الحضارة الإنسانية.

 

د- معتز محمد زين

كاتب سوري

 

 

 

Whatsapp