الركود والتضخم بالاقتصاد


 

لا يخفى على أحد اليوم الوضع الاقتصادي العالمي والتخبط الذي يعيشه بين توقف صناعات بأكملها في أغلب الدول، وصعود أسعار الذهب عالمياً كونه الملاذ الآمن، وتذبذب الأسهم وحتى خسارة معظمها وكثرة استعمال اصطلاح "الركود التضخمي" أو (Stagflation) هذا  المصطلح الذي  لم يعرفه العالم قبل سبعينيات القرن الماضي، حين هبت عاصفة البترول عام   1973 وبدأ عالم الاقتصاد استعماله بتعليقاتهم وتحليلاتهم، وهو ببساطة عبارة عن "عاصفة كاملة" من الأخبار الاقتصادية السيئة لأي دولة، والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر ارتفاع البطالة وبطء النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم.

بكلمات بسيطة سنتوسع بمعنى هذا المصطلح وماذا يعني اليوم للقائمين على الاقتصاد، ولكي نعرف هذا الموضوع أكثر سيكون مثالنا على تتبع الولايات المتحدة الأميركية كونها صاحبة العملة السيادية ولها دور وانعكاس على باقي الاقتصاديات الدولية.

ولد هذا المصطلح خلال فترة الركود الاقتصادي التي عاشتها الولايات المتحدة عقب حظر النفط في عام 1973، حيث شهدت البلاد تضخماً متصاعداً وتباطؤاً اقتصادياً في آن واحد، وهو الأمر الذي اعتقد الاقتصاديون قبل ذلك الوقت أنه مستحيل الحدوث، ليُصدم الجميع بحقيقة أن التضخم المتزايد والنمو المتباطئ من الممكن أن يتزامنا، وأن العلاقة بين التضخم والبطالة ليست عكسية دائماً وبين التضخم والنمو الاقتصادي ليست طردية دائماً! 

 اليوم لم يعد يخفى على أحد أن دخول الاقتصاد في حالة ركود تضخمي يعني أن الناتج المحلي الإجمالي إما أن ينمو بمعدل شديد البطء أو يتقلص، والنتيجة الطبيعية لهذا الوضع هي ارتفاع البطالة على خلفية قيام الشركات بالاستغناء عن جزء من موظفيها في سعيها إلى خفض نفقاتها، وهو ما يقلل بدوره من القوة الشرائية للمستهلكين لتتراجع بالتبعية معدلات الإنفاق وهو ما ينتج عنه تباطؤ النمو الاقتصادي بمعدلات أكبر، أي أن الإجراءات التي تتخذ لمواجهة التباطؤ الاقتصادي هي ذاتها التي تعمق من الأزمة، فإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة وحتى أوربا بسبب الشلل الذي أصابهما وحتى باقي دول العالم جراء أزمة فيروس كورونا، التي أضرت أغلب الدول على اتخاذ الحجر الصحي لشعبها وتوقف العربة الصناعية والاقتصادية وتسريح الكثير من العمالة، بعض الدول لجأت إلى البطالة الجبرية مع تعويض جزئي للمواطن ولكن بالحقيقة هو ارهاق للاقتصاد والدخل القومي للبلاد.    

 

يعتبر التباطؤ الاقتصادي في واقع الأمر، جزءً طبيعياً من الدورة الاقتصادية، فعندما تخرج أنشطة المضاربة في الأسواق المالية عن السيطرة (كما حدث مع أسهم التكنولوجيا أواخر التسعينيات وأزمة الرهن العقاري الأخيرة التي أصاب الولايات المتحدة وكثير من الدول الاوربية) حينها يحتاج السوق إلى فترة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، وعادة ما يحدث ذلك من خلال ركود مؤقت قد يكون مؤلماً أحياناً وقد تمتد فتره إلى أطول مما يتوقع الاقتصاديون لتداخل عوامل تنعكس على القرارات والاجراءات المتوجبإتباعها.

سؤال بسيط يطرحه الناس، ما الذي يجعل الركود التضخمي خطيراً جداً؟ لنتخيل أن هناك دولة ما يعاني اقتصادها من نمو متباطئ أو انكماش بالإضافة إلى تضخم خارج عن نطاق السيطرة، فمع ارتفاع معدل البطالة ينخفض ما لدى المستهلكين من أموال، أضف إلى ذلك معدل التضخم الذي يتسبب في تآكل قوتهم الشرائية (المحدودة أصلاً) بصفة يومية تقريباً، الناتج هو وضع سيئ للغاية، ببساطة هذا النوع من التضخم يكون بمثابة القاتل الحقيقي لثقة المستهلكين مما يساعد على خلق بيئة اقتصادية محبطة تكبح الاستثمارات وتخرج قطاعات عديدة خارج العربة الاقتصادية ككل.

 اعتقد الاقتصاديون قبل السبعينيات أنه من المستحيل أن يتباطأ مثلاً نمو الاقتصاد السعودي ويرتفع معدل التضخم في البلاد في نفس الوقت، فالجميع حتى ذلك الوقت آمن بالمبادئ التي وضعها الاقتصادي البريطاني الشهير "جون مايناردكينز" والتي نصت على أن التضخم هو نتيجة ثانوية للنمو الاقتصادي. بالنسبة لـ"كينز" الأمر كله متعلق بالعرض والطلب، بمعنى أنه حين يرتفع الطلب (كما هو الحال في الاقتصادات المزدهرة) تترفع الأسعار أي التضخم، حتى حدث ما حدث عام 1973 وانعكست قرارات سيادية على الاقتصاد العالمي بالإجمال وتأثرت به الدول المزدهرة قبل الدول النامية، مما يقودنا إلى القول  أن الاقتصاد يتأثر أيضًا بقرارات أحادية الجانب تنعكس بشكل مباشر وتخلق عاصفة قد يدوم انعكاسها السيئ سنوات  مخلفة أضراراً لم تكن بالحسبان، وبلاشك هناك أيضًا الجشع والطمع وسوء النية كما حدث بالرهن العقاري من قبل القائمين على الشركات الاستثمارية والمصارف التي لعبت اللعبة دون رؤية بعيدة المدى.

 

أليست المناطحات الأميركية الصينية اليوم الناتجة عن عنجهية البعض ورغبة الآخرين بالتوسع الأفقي بعربتهم الانتاجية يقود الاقتصاد العالمي إلى مواجهات قد تصل حد المواجهات العسكرية غير الكلاسيكية والتي يمكن تشبيهها بالحرب الباردة،  صراع طاحن بقرارات يومية لمحاصرة هذا وذاك وفرض رسوم هنا وهناك ومقاطعة هذا المنتج والطعن بتطور منتج آخر، لذلك الكل يتوقع حدوث تباطؤ غير مسبوق بالاقتصاد وأيضًا تضخم غير مسبوق قد يتجاوز بحدته أحداث عام 1973 وأزمة الرهن العقاري، هذه التوترات والحرب الباردة إن صح التعبير مضيفين إليهما ظاهرة فيروس كورونا وما تخلفه اليوم سيخلق الركود التضخمي شئنا أم أبينا، ولن نستطع تجاوز ذلك إلا بظهور حكماء تسود العقلانية توجهاتهم لبناء علاقات دولية معتمدة على بعد نظر لمكانة الإنسان والإنسانية بقراراتهم وظهور نظريات جديدة تقود الفكر الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء، ونتساءل هل سيظهر علينا فولتير جديد وماركس أشد حنكة  وبلاغة باقتصاد المجتمعات ليعيدوا النظر حتى بنظرية ( جون كينز) وسميث وغيرهم من الاجتماعيين والاقتصاديين لتستمر الإنسانية بمسيرتها بسلام منشود منذ قديم الزمان.

 

 

سمير خراط

كاتب سوري

 

 

 

 

 

Whatsapp