تدخلت روسيا عسكريًا في سورية في أيلول/سبتمبر 2015 بحجة حماية الدولة السورية من الإرهاب والمحافظة على وحدة سورية، بعدما اعتبرت موسكو أنها خُدعت في ليبيا من قبل الغرب ومررت قرارًا أمميًا يتيح للناتو التدخل في ليبيا ضد حكومتها التي كانت تنوي قصف المدنيين في الشرق الليبي وتدمير مدنهم كما فعل بعدها النظام السوري، في حين لم يردعه أحد. وبينما أطلق الزعيم الليبي على المنتفضين على حكمه صفة الجرذان، أطلق النظام السوري صفة الجراثيم على الشعب السوري، وجاء الروس ليخلصوا النظام من الجراثيم وحجتهم أنهم جاؤوا باستدعاء رسمي من حكومة شرعية. أتى التدخل في لحظة حاسمه كادت تودي بالنظام إلى الهاوية، رغم أن حلفاءه الإيرانيين الذين تدخلوا باكرًا بمختلف أذرعهم، وجيشه وشبيحته الذي روج على مدى أكثر من أربعين عامًا، أنه يعدهم للتحرير وأنهم هم القوة الضاربة في المقاومة والممانعة زورًا وبهتانًا، رغم ذلك كان يخسر كل يوم مدينة أو أكثر على يد فصائل مختلفة، كانت تقاتل النظام تحت رايات مختلفة.
جاء التدخل حاسمًا، بعد تدخلات دبلوماسية في مجلس الأمن حمت النظام بالفيتو المتكرر الذي ورثته روسيا عن الاتحاد السوفياتي المنهار. مستفيدة من تجربتها في قمع ثورة جمهورية الشيشان المسلمة، التي تعد جزءاً من الاتحاد الروسي الذي يضم 13 جمهورية إلى جانب روسية، ومن طريقتها الوحشية في القمع، باتباع سياسة الأرض المحروقة التي لا تبقي ولا تذر، وتدمر البشر والحجر، استطاعت روسيا إعادة نحو 60 بالمئة من مساحة سورية إلى حظيرة النظام، وقامت بعدها بابتداع مناطق أربعة أسمتها مناطق خفض التصعيد، في الجنوب والشمال والوسط، كان محورها وقف إطلاق النار ومصالحات تتيح للمقاتلين الانسحاب إلى مناطق آمنة في محافظة إدلب التي تسيطر عليها جبهة النصرة وفصائل أخرى، وتسليم سلاحهم الثقيل ،أو تسوية أوضاعهم مع النظام وإتاحة من يريد للالتحاق بفيلق عسكري أسموه الفيلق الخامس يتولى الأمن في مناطق خفض التصعيد. وكان الحل الآخر لمن لا يقبل هو التدمير الكامل.
أتاح الروس للنظام دخول مناطق خفض التصعيد، وضرب عرض الحائط بالاتفاقات، وعاثت شبيحة النظام في الأرض فسادًا كالعادة، وبعدما ابتدع الروس مساري أستانا وسوتشي والتفوا على القرارات الدولية التي أقرت ترتيبات لحل المسألة السورية، تبدأ بانتقال سياسي ووقف القصف من قوات النظام والافراج عن المعتقلين السياسيين وكشف مصير المختطفين ومحاسبة كل من أحرم بحق هذا الشعب، من خلال قرار مجلس الأمن 2254، وشعروا بأن الأمور بدأت تستقر لهم مع غياب شبه كامل للمجتمع الدولي ، بدأ الروس بالكشف عن أطماعهم الحقيقية، وبدأوا بالاستحواذ على المراكز الهامة التي طالما حلموا بها منذ عشرات السنين للوصول إلى المياه الدافئة. بدأوا يستثمرون بالمرافئ والمطارات والصناعات الهامة في شتى المناطق السورية، بعقود طويلة الأجل وينظرون بعين الريبة للاتفاقات العسكرية بين النظام وإيران، والذي استثمر أيضًا في البنية التحتية، بما فيها من معامل وفنادق ومراكز تجارية ومناطق سكنية.
يخاف الروس أن تشكل الاتفاقات العسكرية الجديدة مشاكل لوجستية لعملياتهم في سورية، ومع أنهم يمنعون النظام من استعمال المنظومات الجوية التي زودوه بها إلا أنهم يشعرون بأن النظام يعتمد الإيرانيين كحليف أقرب ومفضل عليهم، ومع أن الروس يعملون على تحويل الجيش السوري إلى جيش يحمل العقيدة الروسية وموالي لهم لكنهم يشعرون بالوجل مما يجري بين إيران والنظام، مع أنهم لا يعملون ولا يقدرون على دحر إيران من سورية كما يرغب الأميركان والصهاينة.
يلفت النظر في المرحلة الأخيرة أمران يعززان النظرة إلى أن الروس يشكلون انتدابًا جديدًا على سورية، أولهما أن قاعدة حميميم أرسلت وفدًا من مسؤوليها إلى بلدة (سقيلبية) المسيحية في الغاب، ليضعوا حجر الأساس لكنيسية أرثوذوكسية شرقية، التي ترعاها روسيا، مما سيحولها من دولة ادعت أنها أتت لتحمي الدولة، إلى دولة تعمل على حماية مذهب ديني تتبعه أقلية بين المذاهب المسيحية.
الأمر الثاني الذي يلفت النظر بشدة هو محاولة شركات بترول وطاقة روسية الدخول بشراكات مع شركات أميركية بدأت تكشر عن أنيابها بسرقة نفط سورية الواقع تحت سلطة الانفصاليين شرق الفرات بعقود طويلة الأجل في ظل نظام منهار تقسم سورية أمامه وهو يقول دمشق تكفيني. ومن المعيب أن هناك شركات عربية داخلة بتحالف نفطي مع السارقين. أعان الله سورية وشعبها وخلصها من مجموعة الكوارث التي ترزح تحتها من احتلالات وأوبئة وحكومة مجرمة وفاسدة أضاعت سورية وحقوقها.
محمد عمر كرداس
كاتب سوري