التاريخ والجغرافيا وسورية ٣


لعل أهم نقطة أثرت فيها الجغرافيا على تاريخ سورية وبلاد الشام هي موقعها على الزاوية الشمالية الغربية للبحر المتوسط.هذا البحر الذي كان يقع في وسط العالم المأهول قديمًا، وهو الذي شكل عبر التاريخ فاصلًا وواصلاً في آن معًا جغرافيًا وثقافيًا وسياسيًا. جعله أهم بقعة استراتيجية في العالم. وبواباته الثلاث ظلت لفترة طويلة المتحكم بأمن العالم.

ومازال رغم تراجع أهميته بسبب توسع العالم وتطور طرق المواصلات والاتصالات عاملًا مهمًا في التأثير على حركة التاريخ والصراعات السياسية الدولية والإقليمية.

وأكاد أجزم بأنك إذا أردت أن تفهم موقفأي من الأطراف الخارجية للصراع في سورية الآن، فتش عن المتوسط!!فالموقف الروسي مبني بشكل أساسي على الأهمية الاستراتيجية للبحر المتوسط في الفكر السياسي الروسي قبل قيام الاتحاد السوفياتي، حيث كان الهدف المعلن للقيصرية الروسية هو الوصول إلى المياه الدافئة.. وأثناء فترة وجوده كقوة عظمى، وبعد سقوطه أيضًا. مما يؤكد الثبات الاستراتيجي في هذه النقطة. وبعد خسارة ليبيا أصبحت آخر نقطة ارتكاز لهم في المتوسط هي ساحل سورية الضيق المحاصر. وكانت خسارتها ستعني بالأغلب خروج روسيا من المعادلات الدولية المهمة وسوف تنكفئ إلى مجرد دولة إقليمية كبرى لا أكثر. لذلك فقد كان موقفها صلب وثابت إلى جانب النظام السوري في صراعه من أجل البقاء.

أما محدثي السياسية اللذين لم يقرأوا التاريخ ولم يفهموا الجغرافيا، فقد راهنوا على تغيير الموقف الروسي أو محاولة شراءه. غير مدركين أن القاعدة الأساسية في السياسة تقول: بأنه لا يمكن استبدال أو تبادل المصالح الإستراتيجية بالمصالح التجارية.وإن الاغبياء اللذين زعموا بأن الغرب أو الشرق لن يتدخلوا في سورية لأنه ليس فيها نفط، لا يدركون أنه لديها ما هو أهم وأبقى من النفط!!

ولو نظرنا إلى موقف الأكراد نرى أن لديهم يقين ثابت، بأنه دون السيطرة على ممر بري عبر شمال سورية أو جنوب تركيا -لا يقل عرضه عن عشرين كيلو متر- يوصل مناطق تواجدهم مع البحر المتوسط فإنه يستحيل إقامة دولة كردية قابلة للحياة.. وهذا ما يفسر محاولات امتدادهم غربًا إلى عفرين وصولًا إلى بر الأمان.

 وتدخل تركيا العسكري كان بالدرجة الأولى لقطع أي إمكانية لفتح هذا الممر الذي يهدد وحدتها ويقطع الاتصال الجغرافي بينها وبين العالم العربي وروابطه التاريخية.

إيران ورغم كل ما تزعمه من ترهات للاستهلاك المحلي من حماية المقامات إلى حماية الأقليات الشيعية إلى.. إلى.. فإن الحقيقة أنه الطموح الأزلي منذ عصر الصراع مع الرومان للوصول إلى المتوسط.

إنها حمى البحر المتوسط التي أصابتنا منذ جاورناه ذات يوم موغل في عمق التاريخ ليصبح حدنا الجغرافي الغربي.الذي جر علينا كل ويلات الصراعات الدولية والاقليمية.

في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان لدى الأغلبية من المخططين الاستراتيجيين قناعة راسخة بأن من يسيطر على البحر الأبيض المتوسط يستطيع السيطرة على العالم.  وأن من يسيطر على المنطقة الممتدة من خليج السويس إلى خليج اسكندرون يستطيع السيطرة على المتوسط. لذلك تم التوافق بين دول الغرب المسيطر على تقسيم هذا الشريط بين أكبر عدد من الدول المتنافرة أو المتناقضة. بحيث يستحيل على أحد منها بسط للنفوذ عليه. (مصر، فلسطين الكيان الصهيوني، الكيان اللبناني، دولة دمشق، الكيان العلوي، دولة حلب، تركيا)وفي هذا السياق نفهم لماذا تنازلت فرنسا عن اللواء لصالح تركيا. 

وفي نفس السياق أيضًا نفهم الموقف الأوربي الرخو حيال التدخل العسكري التركي في جزيرة قبرص -أهم نقطة ارتكاز- في بحر الدم الذي سمي زورًا البحر الأبيض وهو الذي شهد فوق مياهه وعلى شواطئه أعنف المعارك والحروب عبر التاريخ.

عندما ورثت الإمبراطورية الأميركية تركة الامبراطوريات الأوربية ورثت معها القناعة بهذه الأهمية المفرطة الحساسية للبحر المتوسط رغم أنه لا يؤثر تأثيرًا مباشرًا على أمنها القومي كما هو الحال بالنسبة لأوربا. وبقي الأسطول السادس يجوب مياهه متيقظًا على مدار الساعة. وأصبح التمسك بالقاعدة الأهم على شاطئه الغربي (اسرائيل) ورفعها إلى مصاف قضية أمن استراتيجي بالنسبة لها.وليبقى لهذا البحر العتيق ألقه في السياسة الدولية رغم ثورة المواصلات والاتصالات وتطور السلاح إلى عابر قارات.

أعود للتذكير أن قناعتي بأن نظرية تقسيم الأمة العربية كانت مبنية على معادلة (دول عربية صغيرة ضعيفة محاطة بدول كبيرة قوية)وكنت قد ذكرت إيران وتركيا التي لم يقسمها الغرب ولم يسع لذلك جديًا. لكن هذا لا يكفي لحصار المنطقة الأهم في العالم "شرق المتوسط" لذلك كان لابد من خلق دولة تكمل هذا الحصار. فكانت (إسرائيل) رأس هذا المثلث.

في بداية القرن الثامن عشر (عصر القوميات) العصر الذي تشكلت فيه الدول الحديثة في أوربا وبعد استقرارها كان في ذلك الأوان مطروحًا أمام أوربا الحديثة مسألتين أساسيتين سميتا وقتها المسألة الشرقية وكانت تعني إعلان وفاة الامبراطورية العثمانية وتوزيع تركتها والمسألة الثانية اليهودية وتعني تفريغ أوربا من اليهود الذين شكلوا وقتها عامل توتر دائم داخلها وصل في كثير من الأحيان إلى خطر تفجيرها من الداخل.ولم يكن وقتها في ذهن أحد أن يحل المعادلتين معًا.

يرجع الجذر الأول إلى أهم مخطط استراتيجي عرفته أوربا وقتها، إنه نابليون بونابرت الذي فكر وقتها عكس حركة التاريخ بعزل مصر عن بلاد الشام بجسم غريب يتم خلقه بينهما وكان اقتراحه شبه جزيرة سيناء. وهذا كان يتمشى مع معطيات الجغرافيا مع حواجز طبيعية من الماء والجبال. وحيث إنها كانت مفتوحة من جهة الغرب تخيل خلق حاجز مائي يصل الأبيض بالأحمر مع صعوبة تنفيذه بمعطيات ذلك العصر العلمية والعملية.

وكان تفكيره بعزل الشام عن مصر لاستدامة سيطرته على مصر التي احتلت مركز الصدارة في الاستراتيجية الفرنسية وقتها. وأنا قلت إن هذا كان عكس حركة التاريخ لأنه منذ مطلعه، لم يسيطر حاكم أو امبراطور على مصر إلا وفكر في ضم الشام والعكس بالعكس. فمن الفراعنة فالآشوريين فالإسكندر فالرومان ثم العرب المسلمون فالصليبيون والفاطميون. ولم يستطع أحد الحفاظ على مصر دون ضمان الشام والعكس. أدرك هذه الحقيقة داهية العرب معاوية في صراعه على الخلافة ونجح.  وفشل المغول في السيطرة على مصر فاندحروا وفشل الفاطميون في السيطرة على الشام فاندثروا. وأدرك صلاح الدين أنه قبل السيطرة على مصر لا يمكن تحرير الشام فنجح. وأراد نابليون أن يجابه التاريخ فهزم. وبعد أن استتب الأمر في مصر للإنكليز تمسك الفرنسيون بالسيطرة على الشام لكسر سيطرة الإنكليز على العالم

وبعد هذا الاستطراد الواجب، نذكر أن أول من فكر في حل المعادلتين المعضلتين في أوربا كان أول رئيس وزراء بريطاني من أصل يهودي (دزرائلي) حيث أعاد بناء فكرة نابليون مع اقتراح أن يكون الجسم الغريب في فلسطين وأن تكون ماهيته دولة يهودية. بما لذلك من جذور تاريخية لدى اليهود في العالم.وقبل ذلك كانت كل السناريوهات الأوربية لخلق الدولة اليهودية تدور بعيدًا عن منطقتنا. حيث كانت المقترحات تدور في أميركا اللاتينية أو أميركا الشمالية أو افريقيا. وحتى اليونان. وكانت الوكالة اليهودية التي شكلت بدعم من الدول الأوربية متناغمة مع تلك السيناريوهات وكانت حتى ذلك الوقت تحبذ الأرجنتين. وقد سعت لذلك دأبًا. وقامت بجهود حثيثة لتهيئة الأرض للدولة الموعودة.

 

بسام شلبي

كاتب سوري

Whatsapp