نراوح في جحور ونتخندق وراء جدر تكاد لا تختلف عن عقولنا في بيئاتنا المنطوية المنعزلة، بأسنا بيننا شديد فلا كبير نرجع إليه، ولا عاقل نتكئ على علمه، ولا رؤيا نتفق في السعي إليها.ليس تشاؤمًا ولا سوداوية في الطرح حين نشاهد سفينة الوطن العظيم تنقلب بنا جميعًا حين نترك مساحاتها فارغة ونتشبث في ركن من أركانها لإشعال الحروب والمطاحنة التي ستودي بنا جميعًا موتًا بالحرب أو غرقًا تحت الأمواج العاتية.
فتح الستارة عن سوداوية المشهد السوري ليس مقصده جلد الذات ولا تكريس اللا أمل واللا عودة واللا تلاقي، ولا تعبيرًا عن انتهاء الحلم بوطن حقيقي يستحق النضال في سبيل حريته ورفع شأنه.
أبدًا.. لكنه الحزن الذي يخترق صدورنا بطعناته، والأمل الذي يقتلنا كل يوم أمام مشهدية هزلية مزرية تعلن انتصار الأسد ونظامه على تاريخ طويل ومشرف لأعظم عقد اجتماعي لم يتصدع لنوازل وعواصف واحتلالات.
سرعان ما نهض رجالات سورية مع نهايات الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية وخروجها من سورية ليعلنوا في حزيران ١٩١٩ عن المؤتمر السوري العام أو بما عرف بالكبير من كامل البلاد السورية وما عرف بسورية الطبيعية التي تضم سورية ما قبل الحالية ولبنان وفلسطين والأردن والأقاليم السورية الشمالية ولواء اسكندرون من كافة الطوائف الدينية والتيارات السياسية، وتعيين الأمير فيصل بن الحسين ملكًا عليها.
ومن شرفة مبنى بلدية دمشق في ساحة المرجة تُلي البيان أمام ترحيب جماهيري كبير في آذار/مارس ١٩٢٠ وأعلن المؤتمر عن تماسك الوطن السوري وعدم الرغبة في انفصال فلسطين أو الغرب السوري الذي يشمل لبنان.
وليعلن عن قانون استقلال سورية الطبيعية باسم المملكة السورية العربية عام ١٩٢٠.
هذا الجمهور هم نفسه الشعب الذي ناضل لينال استقلاله وقاوم بكل فئاته ومكوناته الانتداب الفرنسي على سورية، ولعل أُولى الرصاصات في شمال غربي سورية بدأت مع النضال الكردي المسلح الذي بدأ باكراً قبل أن يبدأ إبراهيم هنانو ثورته، ولاقى الكرد كبقية الوطنيين السوريين الاعتقال والملاحقة.
ليس بعيداً عن متناولنا الحالة الوطنية لرجالات سورية ومن جميع مشاربها والقدرة على استيعاب حالة التعامل السياسي والوطني في ظل الانتداب ومحاولاته الحثيثة في تقسيم الوطن السوري، ثم بعد جلائه عن سورية، والقدرة على قيادة المرحلة بما عرف بالتاريخ الذهبي للديمقراطية في سورية.
وعوداً على السوداوية لا أمل لنا أمام موجات العنصرية البغيضة والمناطقية المقيتة، وأمام هذه التحولات السياسية الكبرى في بلدان الشرق الأوسط وسورية على وجه الخصوص إلا بالوقوف بحزم وعقلانية في مواجهة النظم السياسية التي أوصلت بلادنا إلى حافّة الهاوية، هذه السلطة على رأس قائمة الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الوضع الكارثي بسبب طبيعتها وممارساتها اللاعقلانية، كعمالة مدفوعة الأجر، وتليها سلطات الأمر الواقع بقوة السلاح واختلاق المشكلات والمبررات الداعمة لوجودها وبسط سيطرتها على أعناق العباد، وسرقة مواردهم وأرزاقهم أو مواجهة مصير الموت أو النفي أو التغييب وراء قضبان السجون بدعم دولي متعدد الأطراف والمصالح .
لا سبيل إلا بإعادة النظر، وإعطاء الفرصة لفسحة المشاريع الفكرية والعقلانية والنهضوية، والدعوة مرة ومرات كثيرة لمؤتمر سوري عام، وقطاع واسع من المفكرين والسياسيين والمثقفين ومن كل فئات الشعب السوري وإثنياته وطوائفه علنا نفتح باباً للثقة والمصالحة ينقلنا إلى مستقبل أفضل وأنظف.
علنا نسمع من جديد سوريتنا أولاً، وعلنا ندرك مجدداً بعدنا التاريخي والثقافي الذي ينسفه منشور عنصري سفيه لأحمق هنا، وردة فعل أكثر حمقاً من الطرف الآخر. علنا نبني وطن الجميع بديلاً عن تعليق مشانق للحرية والإنسانية والتاريخ.
محمد الحموي كيلاني
كاتب واعلامي سوري