الفقرُ إثم


 

نعم.. الفقرُ إثمٌ، ولكن الفقير ليس بآثم.. لقد ظلَّ الإنسان منذ وجوده الأول يحاول الهرب من شبح الجوع، فقد كان هذا الهاجس المحرك الأكبر لجميع محاولاته في بناء حضارات يستطيع من خلالها التخلص من هذا القلق الوجودي الذي يهدد حياته، فكان ظهور علم الاقتصاد مبكراً جداً قياساً مع العلوم الأخرى في محاولة من الإنسان لإيجاد حلول لهذه المشكلة.

العديد من النظريات والمدارس والفلسفات الاقتصادية مثل (النظام العبودي، الاقطاع، الاشتراكية، الماركسية، الشيوعية، الليبرالية.. إلخ) جميعها، وبعد تجريدها من الزوائد والشوائب، تبقى فيها غاية أساسية ألا وهي القضاء على الفقر وبناء نظام اقتصادي يجعل الإنسان في مأمن من الجوع.. ولكن هل نجحت هذه المحاولات؟..

نحن في القرن الحادي والعشرين ومازال ثلث سكان العالم تحت خط الفقر، إذن لابد لنا من الإجابة على سؤال غريب نوعاً ما ولكنّهُ هامٌّ لمعرفة جذور المشكلة..

هل الفقر نقص في المواد الغذائية أم نقص في الشعور؟!

كل تاريخ الفكر البشري كان خاضعاً لثنائية الفكر والمادة، الجسد والروح، ولم يستطع الفكر البشري تخطي هذه الثنائية الأساسية في هذا العالم، فكانت المدارس والمذاهب الفلسفية جميعها قائمة على أحد أطراف هذه الثنائية، وبنيت عليها فيما بعد السياسة والأديان والاقتصادات والفنون، فالماركسية فلسفة مادية نشأت عنها الاشتراكية والشيوعية والأديان التي تدعو إلى إعلاء شأن الطبيعة المادية، أما الأفلاطونية والهيغلية فلسفات مثالية فكرية تعلي شأن الروح والفكر وتهمل المادة، فكانت المسيحية أقرب إلى الروحانيات واليهودية أقرب للمادة والطبيعة، بينما نرى الإسلام جامع لهذه الثنائية المتناقضة ظاهرياً، فكان منهج الإسلام توفيقياً وجاءت كل تعاليمه متماشية مع هذا التوافق (جسد وروح، فكر ومادة)، فالوضوء طهارة للبدن والنفس، والصلاة حركات جسد وتواصل قلبي، والزكاة ضريبة مفروضة تحتاج إلى صناديق مالية وقلوب مفتوحة وشعور بالرحمة والتآخي، وجاء اسمها من التزكية أي الزيادة والبركة والتطهير الروحي والمادي معاً، وهذه النقطة الأخيرة هي ما أُريدُ الوصولَ إليه من كل ما سبق  ذكره، وهي الجواب على السؤال سالف الذكر (هل الفقر نقص مواد غذائية أم نقص شعور؟)، لا يوجد نظريات في تاريخ علم الاقتصاد تعنى بالجانب الروحي، فعلم الاقتصاد أبعد ما يكون عن هذا الجانب وقد انصبَّ جلَّ اهتمامه على توزيع الثروة المادية وعلاقات الانتاج وغيرها، بينما نجد نظام المال في الإسلام وبالتحديد قانون الزكاة فهو تركيبة وتوليفة بين علم الاقتصاد وعلم الأخلاق وعلم النفس، حيث يصنَّف علم الاقتصاد بأنه علْمٌ وجوديٌّ يبحث في ما هو كائن، ويصنَّف علم الأخلاق بأنه علم معياري يبحث في ما يجب أن يكون، فجمعهما في سياق واحد حسب معايير العلوم والمنطق الصوري ضرب من الخيال بينما في المنطق الإلهي فقد تمَّت صياغتهما بنسق واحد أنتج نظاماً اقتصادياً كانت نتائجه باهرة في الممارسة العملية في حقبة تاريخية قد انقضت...

الزكاة نظام (ضريبي) قائم على ثنائية (المال والأخلاق) كما هو الحال في ثنائية الإسلام العامة (الجسد والروح) حيث هو نظام "أخذ" من الأغنياء وبذات الوقت "عطاء" وهو أيضاً نظام مالي رقمي دقيق يخضع لحسابات رياضية، وأيضاً نظام تكافل اجتماعي وأخلاقي ونفسي وتطهير روحي، ومن نتاج الثنائية الإسلامية أيضاً حيث الزكاة قسمان، الأول يأخذ بالقوة إذا امتنع الأغنياء عن تأديتها للفقراء كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، والقسم الثاني يؤدّى طوعاً ويسمَّى صدقة، ومن جهة أخرى نلحظ كيف أن الإسلام نهى الفقراء عن التسوّل وبذات الوقت نهى الأغنياء عن ردِّ السائل..

فالعطاء من الأغنياء يجب أن يرافقه رضى قلبي وشعور بالواجب والرحمة، وإلا فقد قيمته وفقد ثوابه ويعتبر مالاً مهدوراً أو مغتصباً من الغني، إنها النية التي تعطي الأفعال قيمتها، وذات الفكرة تبناها الفيلسوف الألماني "كانط" حيث قال (إن الإرادة الحرة أو النية هي من تحدد إذا كان الفعل أخلاقيا أم لا، حتى لو كان الفعل يحقق إسعاد البشرية جمعاء ولم ترافقه إرادة خيرة ونية طيبة وشعور بأدائه كواجب فهو ليس فعلاً أخلاقياً)، فالعطاء "واجب" والأخذ "حق" ويجب أن يرافق الأول شعور التآخي والثاني شعور التعفّف حتى نكون مسلمين بحق.

ولكي نرفق ما قلناه من كلام بما هو ممارسة عملية لابدّ لنا من استذكار العصور الذهبية التي تكاملت بها الثنائية، عندما خرجت أموال الزكاة المجموعة من بيت المال وطافت كل أرجاء الدولة المترامية الأطراف لكي توزع على فقرائها وعادت الأموال كما خرجت من بيت المال دون أن تنقص.

من هذا المنطلق قلنا إن الفقر إثم لأنه إخلال بهذه التكاملية وضرب لنظام الاقتصاد الثنائي الإسلامي، ولكن الفقير ليس بآثم فهو ضحية لهذا الإخلال وليس كما يدَّعي منظرو الاقتصادات الحديثة بأن الفقير إنسان شاذ يجب التخلص منه..

في نهاية القول وبعد كل ما سلف علينا أن نتساءل: كيف يفتكُ الفقرُ بالمناطق المحرَّرة بالرغم من وجود ما يسمّى بهيئات الزكاة وحكومات ترفع شعار "الإسلام دستورنا"؟! 

هل هي هيئات زكاة أم هيئات لجمع المال؟ هل هي حكومات جعلت الإسلام دستوراً أم جعلته أسلوباً؟!..

ونكرِّر مرة أخرى، هل الفقر نقص في الموادّ أم نقص في الشعور؟!.. 

أتوقع أن أطفال المخيمات أكثر من يدرك الإجابة على هذه الأسئلة.

 

 

محمّد ياسين

كاتب سوري

Whatsapp