في حلب كانت أمي محظوظة فهي حظيت بغسالة يدوية ذات الحوض الكبير فكانت ترمي الثياب بداخلها وكنت أنا أراقب دورانها في الاتجاهين إلى أن ينتهي الغسيل الذي كانت تنشره أختي على منشر الغسيل الذي كان عبارة عن قضبان معدنية مشدودة حول حلقة دائرية مثبتة على اسطوانة المدفأة (بوري الصوبيا).
كان نظام التدفئة في بيتنا يعتمد على مدفأة تعمل على المازوت وكان لهذه المدفأة حضور كبير في حياتنا، أولها لم الشمل كل مساء ثم الخبز الذي كنا نلصقه على صاجها الملتهب ليصير شهياً وإبريق الشاي الذي كان يرقد ساخناً فوق المدفأة طوال الوقت.
لكن أختي حرقت بنطالي الذي كنت انتظره، حرقته بسبب إهمالها لأنها لم تنتبه، وهي تنشره، إلى أنه لامس البوري الملتهب، ولم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها فقد سبق وأن أحرقت قميصي الذي كنت أحبه فقلت لأمي: -لا أريد لأختي أن تنشر الغسيل فهي تحرق ثيابي.
وغادرت المنزل ببنطالي القديم متوجهاً إلى بيت كنا نعرض فيه أفلام (يلماز غوني)، وأثناء متابعتي لفيلم القطيع الذي تدور أحداثه حول عائلة كردية تعيش على تربية المواشي وزراعة الحقول في إحدى القرى في تركيا، ابن العائلة شفان بطل الفلم متزوج من فتاة من عشيرة أخرى اسمها (بيريفان)، هذا الزواج تم بينهما من أجل الصلح بين العشيرتين بخصوص مسألة ثأر قديمة، لكن زوجته تلد ثلاثة أطفال ميتين فيظن والد (شفان) أن زوجة ابنه تفعل ذلك عمداً وتحاول أن تثأر منهم.
اما (بريفان) وبعد وفاة طفلها الثالث تصبح خرساء لا تستطيع أن تتكلم لكن زوجها (شفان) الطيب القلب يبيع بندقيته في سابقة عظيمة استغرب الجميع لها، الرجل المهدد بالقتل يبيع بندقيته ويأخذ زوجته إلى المدينة بغية علاجها، لكنها ترفض أن يكشف عليها الطبيب لأن التقاليد الكردية العشائرية القديمة كانت ترفض أن يكشف رجل غريب على امرأة ثم بعد فترة تموت (بريفان).
ما لفت انتباهي هنا هي فكرة أن تكون أختي تتقصد إحراق ثيابي انتقاماً مني لأنني أتمتع بحرية لا تتمتع هي بها، ولما عدت إلى المنزل وطوال الطريق وأنا أخطط لكمين ما أو لخطة استدرج بها أختي إلى الاعتراف وحينها لن تستطيع أمي الدفاع عنها وحين وصلت البيت شممت رائحة شيء يحترق فسارعت إلى غرفة المركز وأنا أقول في نفسي لقد أوقعت بها، ولكن الثوب الذي كان يحترق كان لأختي وكان جديداً جلبه لها والدي من العراق.
فحملته وبحثت عن أختي التي كانت تحضر الطعام، قلت لها:
ثوبك احترق لكنها لم تحزن.
فأعدت لها الجملة:
ثوبك الجديد احترق.
لكنها لم تحزن ولم تتكلم ولم تتفوه بكلمة لدرجة أنني حسبتها (بريفان) التي أصابها الخرس في فلم (يلماز)، ولو كان عندي بندقية لبعتها لأعرف السبب لماذا لم تحزن أختي؟
حين غادرت سوريا بينما أودع أختي التي كانت معي في كل مراحل الابتدائية والشباب شعرت وقتها بأنني أنا (بريفان) الخرساء فلم أتفوه بأي كلمة بل غادرت وما أصعب الفراق، ومرت السنين وأنا أتذكر تلك المدفأة ومنشر الغسيل، وأصابع أمي التي احترقت حين شبت النار حول المدفأة إثر تسرب المازوت لأن أمي كانت رجل الإطفاء الذي سيطر على النار ولم يشعر بأصابعه.
في ألمانيا حضرت فلم (تيتانيك) وحين غادرنا الصالة كان الكل يبكي والأكثر بكاء كن النساء، وكانت مهمة الرجل هنا أن يضبط أنفاسه ويحبس دمعه، ومن ثم يخفف عن شريكته التي وضعت رأسها على كتفه.
لكنني لم أبك لأنني تأثرت بالفلم ولأن الجميع كان يستذكر مشاهد الفلم بحزن ويبكي، إنما أنا بكيت لأنني تذكرت تلك اللحظة وأنا أحمل فستان أختي الذي احترق بينما هي نظرت إليًّ نظرات تذكرني دوماً (ببريفان) تلك التي صارت خرساء وماتت في نهاية الفلم.
محمد سليمان زادة
كاتب وشاعر سوري