الخبرة أم الشهادة 


 

ارتفعت نسبة البطالة بالعالم  وتغيرت معطيات سوق العمل، إن كان بتطور التكنولوجيا ومعطياتها أو مقدرات الفرد على التجاوب مع تلك المتطلبات والتلاؤم، وغيرذلك الكثير من مفاهيم معنى ما نسميه الموارد البشرية أو سابقًا بإدارة شؤون العاملين، وحتى شروط التوظيف فأخذت بعدًا  ومقاييسًا أخرى، حيث بدأ السؤال يطرح نفسه في سوق العمل ( أيهما الأهم الخبرة أم الشهادة) وهذا ما سنراه عبر التالي، كي تتكون لدينا فكرة عن هذا التطور الملحوظ وكيف للخريجين الجدد أو أصحاب الخبرة التعامل مع الواقع وبشكل خاص حيث سوق العمالة تصيبها التخمة بسبب تباطؤ العربة الاقتصادية وانتشار وباء الكورونا الذي أدى إلى إغلاق الكثير من النشاطات الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة بشكل خطر على الدولة قبل العامل بحد ذاته.

 تعتبر الشركات أن  الخبرة مقدمة على الشهادة، وكلنا يعلم أن الهدف من الشهادة والدراسة هو الوصول لخبرة كافية تمكنه من العمل في كل مكان بنفس تخصصه، لكن الواقع مختلف تماماً فالمجرب يعرف جيداً أن الشهادة هي مفتاح الباب للوظيفة ولكنها ليست وسيلة النجاح، فللخبرة الدور الكبير كي يصبح الموظف الجديد يعطي أو يحقق لرب العمل الربح المنشود من تلك الوظيفة أو المركز، وصاحب الخبرة خلال أيام يبدأ بالعطاء والانتاج الوظيفي بينما صاحب الشهادة قد يلزمه فترة طويلة جداً ليستوعب الفرق بين الدراسة النظرية والعمل الميداني، وهذه النظرة ليست محصورة في البلاد العربية، بل النظرة ذاتها تسود سوق العمل في أوربا حتى تغيرت ومالت أكثر للخبرة وتغيرت على أساسها معايير ومفاهيم إدارة الأفراد أو الموارد البشرية إلى مفهوم ما يمكن أن نسميه إدارة مصادر الخبرات حتى نشأت شركات مختصه سميت ( صائدي الرؤوس) ينحصر دورها في البحث عن شخصيات صاحبة خبرة لإغرائهم للانتقال لأماكن عمل أخرى. 

تبحث الشركات دائماً عن أصحاب الكفاءات وتحرص على استقطابهم لكنها لا تملك معيار لتلك الفئة المتميزة،لذلك تكتفي بالثقة التي منحتها بعض الجهات الموثوقة لهذا الشخص مثل الجامعات أو المعاهد المعترف بها حتى يتم توظيفه، وفي نفس الوقت لا يوجد معيار للخبرة فالشخص الذي يدعي أنه يملك خبرة لا يستطيع إظهار مقدار هذه الخبرة لمدير التوظيف، هل هو متمكن بدرجة كبيرة أم متوسطة أم ضعيفة، لذلك يخسر صاحب الخبرة المعركة أمام صاحب الشهادة في الموثوقية.

عالم دين متمكن في العلوم الشرعية لا يسمح له بالتدريس في الجامعة لأنه لا يحمل شهادة الدكتوراه في مجاله إلا في حدود ضيقة بتقديم استثناء من مجلس الكلية لهذا العالم، ومهندساً ميكانيكاً متمكناً لا يسمح له بالتدريس في الكليات أو المعاهد التي تدرس الميكانيك رغم تمكنه التام في هذا المجال وخبرته العريضة بسبب عدم حمله لمؤهل أكاديمي لتدريس هذه المواد، والموضوع يختلف كليًا عما نتحدث عنه لأننا هنا تحولنا إلى معايير التدريس وليس معايير التوظيف، مما يظهر لنا أن للموثوقية دور بالميدان، وأذكر تماماً حينما تركت عملي المصرفي بفرنسا وعدت لسورية وتقدمت لوظيفة بالقطاع الصناعي الخاص لم يسأل أحد عن شهاداتي الجامعية ولم أعرضها عليهم، كل ما هنالك أنني ذكرت أنني كنت مدير بنك، واستلمت فوراً عملي، وباليوم التالي ناقشت المصرف الأجنبي  باعتماد جديد كانت الشركة بصدده وفرضت أسلوبي بإصدار الاعتماد الذي حقق وفرًا بالأجور والأكلاف وحماية مصلحة الشركة، وخلال فترة وجيزة من الزمن استلمت جميع العقود الخارجية والعلاقات المصرفية والمالية للشركة حتى تخوف البعض من أن أكون الشريك الجديد لصاحب المجموعة الصناعية، وهذا يدل على أن الخبرة أتاحت لي مباشرة إثبات مقدراتي وإعطائي الثقة التامة بعملي لأشكل الفريق اللازم لإدارة هذا العمل.

يحصلصاحب الخبرة على وظيفة بسبب شجاعة المدير التنفيذي أو صاحب قرار يأمر بتوظيفه، ونضيف إلى ذلك السرعة المطلوبة باستمرارية الانتاج والعمل وتحاشي شلل القسم بغياب هذا المختص، هنا نجد حالة ضرورة الانتاج وعدم توقفه والاعتماد بذلك على صاحب الخبرة عوضًا عن حامل الشهادة الذي يحتاج لفترات طويلة كي يبدأ بالعطاء، بينما إذا كان الموضوع تطويري يمكن توظيف حامل الشهادة والاشراف عليه من قبل كادر مختص حتى يصل لمرحلة العطاء الفعلي فهذا موضوع مختلف كلياً حسب سياسة التوظيف، ولكن يبقى أقل عطاءً من صاحب الخبرة لفترة من الزمن، والإدارة هي من يقرر أين تكمن مصلحتها آخذة بعين الاعتبار ( الراتب الزمن وتطور كلا الموظفين ومدى التلاؤم مع الهدف المنشود من قبل تلك الإدارة) .

وإذا دخلنا إلى الحياة العملية وتعمقنا نجد أنفسنا دوماً بحاجة إلى من يكبرنا سناً وخبرة لينقل لنا خبرات سنوات عديدة لن نجدها لا في كتب الجامعات ولا بالمراجع الموجودة أو المتاحة، حيث لكل موقف وظيفي ومهني  أسلوب خاص يتلاءم معه لإيجاد الحلول المناسبة وهذا لا نجده إلا عند أصحاب الخبرات، مما دعا الشركات إلى اتخاذ احتياطات كبيرة  بوضع متدرب تحت أيدي هذا الانسان كي يكتسب منه أكبر قدر ممكن من حسن التصرف في مواقف لا يمكن ايجادها بالمراجع النظرية، حتى يكون جاهزاً ليحل محله مع اقترابه من سن التقاعد، أو سيترك العمل لسبب ما، والإدارات اليوم تحرص كل الحرص على نقل ما يملكه أصحاب الخبرات للجيل الجديد بالعمل وتقوم على إجراء دورات تطويرية وتدريبية بشكل مستمر تنقل بها هذه الخبرات للجيل الجديد، وستبقى هذه السياسة متبعة بكل الميادين، نقل خبرات من الجيل الأكبر سناً إلى الأجيال الصاعدة، وغالباً نتناسى الشهادات بهذه الحالة ونبحث عن الخبرات الأكثر عطاءً، ولكن هذا الكلام لا يقلل من شأن الشهادة مطلقاً بل العكس حينما يكون هذا المتدرب الصاعد يحمل شهادة أكاديمية بالاختصاص ويمتلك الخبرة حينها نكون وصلنا إلى مرحلة الكمال بالعطاء وابتعدنا أكبر قدر ممكن عن الخطأ الوظيفي، بل يمكن أن يتحول إلى مرحلة الابداع وبشكل خاص إذا كان هذا الشخص يحب مهنته.

أصبح الأكاديمي وبشكل مبسط يعرف كيف يجب أن يتعامل مع سوق العمل وما يحتاجه بجانب شهادته، وفي الوقت ذاته صاحب الخبرات، وكيف يجب أن ينقل الخبرات للجيل اللاحق. وكلنا مقتنع بأن ما نملكه من فكر وخبرة هي في الحقيقة ملك الانسانية أجمع ويتوجب مشاركتها كي نشارك بتطور الانسان  لذلك ومن جهة أخرى يمكننا أن نسقط تلك المفاهيم على باقي نشاطات الحياة إن كانت ثقافية اجتماعية أوحتى أسروية حتى يتم الاستفادة من حملة الشهادات ومالكي الخبرات لكي نشارك بتطوير الجيل الجديد وتسليحه بمعايير صحيحة مكتسبة أكاديمياً وخبرةً من أصحاب الخبرات التي أخذت مع أصحابها سنوات وسنوات حتى تبلورت ووصلت إلى ما وصلت إليه وحازت على التقدير وشاركت بالتقدم الذي وصلناه.

 

سمير خراط

كاتب سوري

 

 

Whatsapp